أولوياتُ الكيان الصهيونيّ تجاهَ البلدان العربيّة بعد انتخابات الكنيست

حجم الخط

بعد الإعلانَ عن نتائج الانتخابات النيابيّة الصهيونيّة (الكنيست) سارع العديد من المسؤولين العرب، الذين طبّعت بلادهم علاقاتها مع الكيان، بتهنئة بنيامين نتنياهو وفريقه الفاشي بفوزهم في تلك الانتخابات التي جرت مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مؤكدين له استمرارهم في عمليّة التطبيع التي توّجت في باتفاقيات أطلق عليها "الاتفاقات الابراهيمية" بدعمٍ أمريكيّ لا محدود، وشرعوا في توقيع الاتّفاقيات الثنائيّة مع الكيان في مختلف المجالات الاقتصادية والتجارية والأمنيّة والسياسيّة والعسكريّة، ولم يتردّد هؤلاء المطبّعون عن إعلان غبطتهم بعودة نتنياهو لتزعم المشهد السياسي رغم أنه فوز مهدد بالسقوط نظرا للانقسام الحاد في المجتمع الصهيوني وللنسبة الضئيلة جدًّا التي حاز عليها معسكر الليكود والذي من الممكن أن "تفركش" الكنيست مع أي خضة ذات صلة بالواقع الداخلي للكيان أو بالشأن الفلسطيني أو لسبب إقليمي أو دولي، خصوصا وأن واحدا من أهم حلفاء نتنياهو يصنف إرهابيا من قبل الحزب الديمقراطي الأمريكي وهو إيتيان بن غفير الذي يسعى للحصول على حقيبة وزارة الأمن بينما تحذر إدارة بايدن من عدم التعامل معه إن تم توزيره فيها. كما أن زعيم الليكود يواجه تهم فساد كبيرة ويترصد له خصومه السياسيين ويتحينون الفرص للإيقاع به. فأي مشهد عربي يمكن أن يتكون بعد الانتخابات في ظل وجود حكومة صهيونية مشبعة بكل صفات الفاشية وممارسات النازية الجديدة؟

في السنتين الماضيتين وقّع الكيان اتفاقيات تطبيعية مع كل من الإمارات والبحرين والمغرب و السودان . ومع أن كل اتفاق له بعض الخصوصية، إلا أن الخط العام لهذه الاتفاقيات هو فرض التطبيع المجاني مع الدول العربية على حساب القضية  الفلسطينية التي لم تعد تذكر في الاتفاقيات التي توقع، بل أن بعض الدول العربية ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال توقيع اتفاقات دفاعية وتنسيق أمني يمس سيادة هذه الدول ويسمح بفتح مكاتب للأجهزة الأمنية والجاسوسية والعسكرية الصهيونية بما يمس السيادة ويهدد الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي ويضع الدول الخليجية المطبعة في "بوز المدفع" بمواجهة إيران على الضفة الأخرى من الخليج العربي. لقد تم التوقيع على "الاتفاقيات الابراهيمية" في عهد بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، وبعد فوز الأول وحصول الجمهوريون على الأغلبية في مجلس النواب الامريكي، زادت حظوظ الجمهوريين في المنافسة على كرسي الرئاسة بقوة مع ازدياد نزوح المجتمع الأمريكي إلى الشعبوية التي يمثلها بشكل سافر الرئيس السابق دونالد ترامب المنافس الاقوى للديمقراطيين. ربما يشكل النزوع الأمريكي للشعبوية حافزا لنتنياهو ويجعل الأمور أكثر سلاسة له بأن يتمكن من عبور ألغام إعادة إسقاطه في الكنيست، ما يعني زيادة التنسيق مع الدول العربية التي وقعت الاتفاقات التطبيعية، والعمل على إضافة دول أخرى في قائمة المطبعين.

يفيد السفير الصهيوني في البحرين إيتان نائيه، أن الكيان والبحرين وقعا، حتى منتصف سبتمبر/أيلول 2022، ما يربو على 41 اتفاقا، بينها الاتفاق الدفاعي الذي تم التوقيع عليه في الرابع من فبراير 2022، ويشمل التعاون مجالات الاستخبارات وشراء المعدات والتدريب. لكن هذا ليس سوى غيضا من فيض التوجهات المتسارعة نحو التطبيع والتحالف مع الكيان، الذي يتواصل في ظل حكومة يترأسها أي من القادة الصهاينة نتنياهو أو لا بيد أو غينتيس أو أي زعيم صهيوني جديد، فليس هناك مانعا لدى أي من الاطراف العربية المطبعة في الدفع بعجلة التطبيع مع أي كان حتى وأن كان ذلك النازي الجديد بن غفير، الذي ينادي بطرد العرب من كل فلسطين للدرجة التي لم تتمكن إدارة بايدن من بلع طروحاته.

وترجمة للسعي نحو التطبيع بسرعة، وقع الكيان في نهاية أكتوبر/تشرين أول الماضي اتفاقية لبناء مقرا لسفارته في البحرين، بعد عامين على توقيع اتفاق التطبيع وبعد عشرة أعوام على وجود السفارة الصهيونية بشكل سري في المنامة بواجهة مكتب تجاري، وفق تحقيق لموقع "اكسيوس" الأمريكي ونشرت "قناة الحرة" بعضا من تفاصيله في اكتوبر 2020. كما أعلن السفير الصهيوني في المغرب ديفيد غوفرين في شهر أغسطس/ آب 2022 عن توقيع عقد بناء سفارة صهيونية في الرباط. وقبيل ذلك وقعت الإمارات والكيان على اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين في منتصف العام الجاري2022 هو الأول من نوعة بين دولة عربية والكيان الصهيوني، سيتم بموجبه استثناء 96 بالمئة من الرسوم الجمركية على جميع السلع، ومن المتوقع أن يزيد الاتفاق حجم التجارة بين الجانبين إلى أكثر من عشرة مليارات دولار في غضون خمس سنوات، علما أن التبادل التجاري بين الإمارات والكيان بلغ 1.2 مليار دولار في العام الماضي، وفق بيانات صهيونية. ويتوقع مجلس الأعمال الإماراتي الصهيوني "أن تكون هناك 1000 شركة (إسرائيلية) تعمل في الإمارات أو عبرها بحلول نهاية العام الجاري، تمارس أنشطة مع جنوب آسيا والشرق الأقصى والشرق الاوسط". وفي ذات السياق من المتوقع أن توقع البحرين على اتفاق مماثل مع الدولة العبرية قبل نهاية العام الجاري تشمل قضايا التجارة والجمارك والمشتريات الحكومية والتجارة الالكترونية وحماية الملكية الفكرية. ولا يصل التبادل التجاري بين الجانبين إلى 10 ملايين دولار في الوقت الراهن.

ولأن الكيان الصهيوني لا يعنيه من يكون على رأس الحكومة في تل أبيب، بل يتعامل وفق استراتيجيات واضحة المعالم، فقد تم التخطيط لعقد اجتماع لوزراء خارجية كل من أمريكا والكيان الصهيوني و مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين والاردن في شهر يناير/كانون الثاني 2023 في مدينة الداخلة بالمغرب، وفق قناة 24i الإخبارية الصهيونية، وباعتبار الاجتماع المقبل يشكل جزءا أصيلا من عملية التطبيع التي تدعو الإدارة الأمريكية إلى تطبيقها بغض النظر عن طبيعة هذه الإدارة ديمقراطية أو جمهورية.

تؤكد المعطيات سالفة الذكر على أن الانظمة العربية التي طبعت مع الكيان الصهيوني هي الأخرى لا تلتفت إلى من يكون في قمة الحكومة الصهيونية، ذلك أنها تسير في نهج يبدو أنه مرسوم ويهدف إلى تشكيل حلف يشارك فيه الكيان بصورة قيادية إن لم يكن هو القيادة الرئيسية فيه. يتبين ذلك من خلال طبيعة الاتفاقيات التي توقعها تل أبيب مع العواصم العربية المطبعة.

المعروف أن الكيان الصهيوني يستغل حالة الضعف في الوطن العربي والخلافات البينية بين دوله وفي الانقسام الفلسطيني وفي غياب الاستراتيجيات العربية التي ترنو للوحدة ووضع خارطة طريق للخروج من نفق التخلف والتجزئة التي أوصلت البلدان العربية إلى منزلقات خطيرة لا يمكن مواجهتها وفق المعطيات والامكانيات الموجودة راهنا، ما يسهل على الكيان ممارسة المزيد من الاختراقات داخل البلدان العربية، حيث من المرجح أن تزيد قائمة الدول المطبعة معه، حسب قول نتنياهو الذي يعرف نقاط الضعف ويعمل عليها حتى يتمكن من السيطرة على البلد المستهدف.

لقد تمكن الكيان من ضبط إيقاع الدول العربية التي وقعت معه اتفاقيات التطبيع، فبادر إلى التوقيع على الاتفاقيات اللاحقة للتطبيع ومنها الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية، وفق استراتيجياته الخاصة التي تؤهله لقيادة المنطقة، حسب متطلبات الشرق الأوسط الجديد الذي بشر به وزير الخارجية الأسبق شيمون بيريز في كتابه الذي يحمل نفس العنوان. وفي نفس الوقت لا يسمح الكيان لأي دولة عربية أو غير عربية بمناقشة أو الاقتراب من استراتيجياته تجاه فلسطين وقضيتها، رغم الحديث المرسل عن تمكن بعض الدول المطبعة من لجم عملية ضم 30 بالمئة من الضفة الغربية. ففي السنوات التي أعقبت اتفاق أوسلو والاتفاقيات الإبراهيمية زادت حموة تهويد القدس وزاد عدد الوحدات الاستيطانية التي أقرتها حكومات  نتنياهو وليبيد وغينيتس، كما زاد عدد الشهداء الذين تقتلهم قوات الاحتلال الصهيوني بدم بارد، فضلا عن عدد الأسرى الذين تضاعفت أعداد من دخل السجون الصهيونية لتصل إلى أكثر من 6 آلاف معتقلا منذ مطلع العام الجاري 2022، ما يؤكد على أن الكيان استخدم هذه الاتفاقيات للتغطية على جرائمه، وأنه لم ولن يكترث لأي استجداء من المطبعين، بل أمعن في غيه ومارس عمليات قضم المناطق وقطع الأشجار وصادر البساتين وطرد الفلسطينيين من بيوتهم ليخلق واقعا جديدا يفرض على الفلسطينيين والعرب التعاطي معه.

إن الأولوية لدى بنيامين نتنياهو تتمثل في استمراره في ذات الإستراتيجية التي يسير عليها الكيان منذ نشأته، التوسع وقضم الأراضي والسيطرة على الغير، وسيبني بعد الانتخابات على المعطيات القائمة وسيعمل على إدخال المزيد من البلدان العربية في نادي المطبعين، وسيسعى لتجسيد واقع الدولة القومية وسيفرض على الدول العربية الاعتراف والإقرار والتعاطي معها، بما فيها الموافقة على تهيئة الأجواء للقيام بعمليات الترانسفير الكبرى وتوطين اللاجئين في دول الجوار وإسقاط حق العودة، وما يعنيه ذلك من كذبة ما يروج له الرئيس الأمريكي جو بايدن والمسمى بحل الدولتين، ذلك أن الكيان ينظر للمسألة برمتها نظرة وجودية، بالضبط كما ينظر الفلسطينيون والمناضلين العرب إلى أن المعركة مع الكيان معركة وجود وليست نزاعا على حدود هنا ومصالح هناك.