راهنية جبهة مقاومة التطبيع في مغرب ومشرق الوطن العربي لدعم القضية الفلسطينية

حجم الخط

في خمسينات وستينات وسبعينات القرن العشرين، كانت المفاهيم والمواقف الوطنية المعادية للقوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية هي السائدة في أوساط جماهير مشرق ومغرب الوطن العربي بكل اثنياته وطوائفه، أما اليوم ، في مشهد الانحطاط العربي الرسمي الراهن فقد دخلنا هذا القرن، الحادي والعشرين، مجردين من أسلحتنا الإستراتيجية، بعد أن أصبحت أنظمتنا في المشهد السياسي الدولي الراهن مجرد أدوات في خدمة مصالح العدو الإمبريالي وركيزته "إسرائيل" في بلادنا، وفي ظل هذا الخضوع لم تعد هذه الأنظمة تعرف لنفسها خطراً معيناً سوى شعوبها عموماً، والجماهير الشعبية الفقيرة خصوصاً والتي بدورها باتت تدرك أن العدو الرابض في أوضاعها الداخلية أشد خطراً من العدو الخارجي .

والآن في ظروف تفاقم تبعية وخضوع معظم بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي، باتت بلداننا مجرد رقم، أو عدد شكلاني لا يحسب له أحدٌ حساباً، وأصبح تكريس مظاهر الخضوع والتبعية والاستبداد والاستغلال والتطبيع أمراً طبيعياً، بعد أن فقد معظم حكام الأنظمة وعيهم الوطني واستباحوا وعيهم القومي لحساب مصالحهم ومراكمة ثرواتهم التي تنزف دماً من كل مساماتها، حيث لا فرق بين نظام ملكي أو أميري أو جمهوري، فكلهم في الاستبداد والاستغلال والفساد وتراكم الثروات سواء.

فعلى إثر الاعتراف بدولة العدو الصهيوني وتطبيع أنظمة الكومبرادور والعمالة في بلادنا، تمكنت دولة العدو الإسرائيلي، ومن خلال الدعم المادي والسياسي الأمريكي على وجه الخصوص، من أن تتحول اليوم إلى دولة إمبريالية صغرى في الشرق الأوسط، كما أصبح حكام أنظمة التطبيع والعمالة في بلادنا، في حالة ينظرون فيها إلى القضية الفلسطينية باعتبارها عبئاً ثقيلاً على كاهلهم يسعون إلى الخلاص منه ، طالما كان في ذلك ضمانة لمصالح النظام الحاكم وشرائحه الطبقية (البيروقراطية والكومبرادورية)، ما يعني -بوضوح شديد - نضوج الظروف الموضوعية للثورة لإسقاط هذه الأنظمة ، لكن يبدو أن العوامل الذاتية ( الأحزاب الثورية) لم تراكم – حتى اللحظة – إمكانات ومقومات الثورة المطلوبة.

فلسفة مقاومة التطبيع:

إن التطبيع مع الكيان الصهيوني يبدأ خطواته الأولى بقرار أمريكي موجه الى اتباعه في النظام العربي، ثم يتحول إلى أداة أساسية من أدوات الصهاينة، وبالتالي فإن التطبيع هو في جوهره إجبار هذا النظام أو ذاك في مغرب ومشرق الوطن العربي، على القبول بالأمر الواقع، واقع عبوديته كنظام كومبرادوري تابع وعميل، لكي يمارس دوره في معاونة الجلاد الصهيوني المدعوم من النظام الامبريالي الأمريكي، بما يخدم مخططات التحالف الامبريالي/ الصهيوني الهادفة إلى تكريس تخلف وتفكك مجتمعاتنا لضمان بقاء هيمنة النظام الإمبريالي العالمي، على مقدرات بلداننا ومجتمعاتنا ومنعها من إعادة تشكيل نفسها على أسس وطنية تقدمية وديمقراطية حداثية مستقلة.

وبالتالي فإن التفسير الجوهري والمباشر لعملية التطبيع مع "دولة" العدو الصهيوني، ليس له سوى معنى واحد هو الاعتراف بشرعية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الغاصب من ناحية، ومحاولة لشطب الحقوق التاريخية والشرعية الدولية لشعبنا على ارض وطنه التاريخي فلسطين من ناحية اخرى، وهنا بالضبط تتجلى روح ومواصفات الخضوع والاستسلام والخيانة التي ترتبط وتلتصق بأي نظام في مغرب ومشرق الوطن العربي، وافق على التطبيع مع الكيان الصهيوني والاعتراف به، فالهزيمة لا تكمن في المعاناة والاحتلال والدمار بقدر ما تكمن في مثل هذا الاعتراف بالكيان الغاصب، وبالتالي تعزيز التوجه الصهيوني لبلورة فكرة "يهودية الدولة" التي تتلخص في: استكمال تزييف التاريخ الفلسطيني، والتخلص -ولو التدريجي- من عبء الوجود الفلسطيني داخل ما يسمى بـ"الخط الأخضر" والضفة الغربية، والتمسك بالقدس "موحدة للأبد" تحت سيادة "إسرائيل"، وضم أكبر كتلة ممكنة من أراضي الضفة الغربية، بحيث يكون للفلسطينيين فقط ما يشبه الحكم الذاتي في هذه الأرض، فيما تكون السيطرة والسيادة الفعلية لـ"إسرائيل" ما بين نهر الأردن والبحر، وبحيث يتم كذلك الفصل والانعزال عن الفلسطينيين تجنبا لخوض الصراع الديموجرافي المستقبلي على أرضنا الفلسطينية التاريخية كلها.

تلك هي حقيقة الصراع الموضوعية على الرغم من الوضع العربي المنحط الراهن، إذ أن استراتيجية الكيان الصهيوني وفق نصوص المنظور اليميني لحكومة العدو الحالية، تنطلق - حسب مخططه الاستراتيجي التوسعي ضد بلدان وطننا العربي - من أربعة دوائر هي: (1) دائرة الهلال الخصيب وتتناوب كل من سوريا والعراق قيادتها. (2) دائرة وادي النيل وتمثل مصر الدولة الرائدة فيها. (3) دائرة شبه الجزيرة العربية وتمثل السعودية الدولة القائدة فيها. (4) دائرة المغرب العربي وعلى رأسها المغرب والجزائر، أما فيما يتعلق بالمغرب العربي فهو من وجهة نظر “إسرائيلية” يمكن تطوير العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية الإسرائيلية السرية السابقة والعلنية الحالية معه ومن ثم تحييده وضمان تأييده للمخطط الصهيوني بسهولة عن طريق عزله عن بقية العالم العربي، وعن طريق المكاسب الاقتصادية وتعميق وتكريس تبعيته وربطه بالاتحاد الأوروبي بموافقة الامبريالية الامريكية بالطبع، الأمر الذي يوضح طبيعة مخاطر التحالف الصهيوني/الامبريالي وعولمة الاستسلام – في اطار التطبيع والاعتراف -على مستقبل شعوبنا عموماً وشعبنا الفلسطيني خصوصاً، دون أن أتجاوز تأثير اتفاق أوسلو الكارثي الذي فتح أبواباً ومبررات لدى الأنظمة الرجعية والكومبراورية التي كانت - كما يبدو – تنتظر بلهفة توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو لكي تبادر الى الاعتراف والتطبيع بالكيان الصهيوني.

إن وعي القوى الثورية الماركسية في بلادنا لهذه المخاطر يعني اقتناعهم الكلي باستحالة أن يصبح الكيان الصهيوني جزءً من نسيج المنطقة العربية، بل سيظل كياناً مغتصباً عنصرياً وعدوانياً في خدمة المصالح الإمبريالية الأمريكية، وبناءً على ذلك رفض هذه القوى وادانتها – بصورة مطلقة- لكل محاولات التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني، إلى جانب التزامها بتقديم كل وسائل الدعم والتضامن للنضال التحرري الفلسطيني، انطلاقا من أن هذا النضال هو نضال من أجل الحرية والاستقلال والعودة، وهو أيضاً نضال تحرري علماني لا يواجه ديانةً بديانة أخرى، لأنه يجسد الفعل الإنساني الحامل لأخلاق المقاومة وممارستها من أجل إقامة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها وحل المسألة اليهودية ضمن هذا المنظور، وذلك انطلاقا من أن السيادة القانونية لشعبنا الفلسطيني على أرض وطنه فلسطين مرتبطة بالحق الشرعي (التاريخي)، وبالتالي فان كل أشكال السيطرة أو السيادة السياسية الاغتصابية الاستيطانية الصهيونية وكافة المتغيرات السياسية التي عرفتها فلسطين طوال (75) عاماً الأخيرة لا تلغي إطلاقا السيادة القانونية المرتبطة بالحق التاريخي لشعبنا الفلسطيني على أرض فلسطين حاضراً ومستقبلاً ، كجزء لا يتجزأ من الإطار السياسي الاقتصادي الاجتماعي القومي العربي.

وبالتالي فلا أحد يستطيع طمس حقوق شعبنا في أرض وطنه فلسطين، ما يفرض على الأحزاب الثورية الماركسية في بلداننا ضرورة التمسك بهذه الرؤية في نضالها الطليعي ضد التطبيع والاعتراف، كما في نضالها الداخلي ضد أنظمتها العميلة وفق المنظور الطبقي الثوري، بما يضمن لها أن تُحقق مكاسب تحررية، واجتماعية طبقية ونهضوية ديمقراطية وثورية في ميادين كفاحها الطليعي مع جماهيرها من العمال والفلاحين الفقراء وكافة المضطهدين، الأمر الذي يدعوني الى مطالبة رفاقي في هذه الاحزاب بسرعة التداعي للحوار المشترك بهدف تأسيس "جبهة مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني"، جنباً إلى جنب مع مسيرة نضالها من أجل مراكمة عوامل نضوج الثورات الشعبية الهادفة إلى إسقاط أنظمة الخضوع والعمالة، وتحقيق برامج الثورة الوطنية الديمقراطية في كل أقطار الوطن، أي إننا سننتصر بقدر ما يكون نضالنا نضالاً ثورياً تقدميا مشتركاً، ونضالاً ذاتياً يضم كافة الاثنيات الامازيغية والكردية وغيرهما، في سبيل استنهاض التبلور الثوري التقدمي والتجدد الحضاري.

في ضوء ما تقدم، أقول بوضوح شديد: إنّ الحديث عن كسر وتجاوز نظام الإلحاق أو التبعية والتخلف والتطبيع الراهن، هو حديث عن ضرورة حتمية في المستقبل المنظور لشعوبنا، العربية والامازيغية والكردية وغير ذلك من القوميات التي تملك الحق بكل ابعاده التاريخية والسياسية والمجتمعية في التعبير عن هويتها الوطنية وثقافتها التاريخية المتميزة.

لهذا بات ضرورياً أن يعاد طرح الرؤية الوطنية من قلب الرؤية التقدمية القومية الديمقراطية الأشمل، التي تنطلق من فهم عميق للمشروع الامبريالي الصهيوني وأدواته البيروقراطية والكومبرادورية والرجعية، في سبيل إعادة تأسيس نضالنا الوطني والديمقراطي على ضوء هذه الرؤية، ولا شك في أن هذه المهمة هي أولاً مهمة الماركسيين في فلسطين والوطن العربي، وفي طليعتهم قوى اليسار الماركسي الثوري المناضل من اجل استرداد الحقوق التاريخية على ارض فلسطين وبهذا المعنى يكون نضال طلائع القوى الثورية في بلداننا -وفي المقدمة منها الطليعة الثورية الفلسطينية - ليس نضالاً ضد الاغتصاب والاستيطان والوجود الصهيوني من اجل الحرية فحسب، بل هو أيضا نضال ثوري ضد كل مظاهر وأدوات التبعية، فهو نهج تحرري وطبقي تقدمي وديمقراطي في آن معاً.

أخيرًا أؤكد باعتزاز الموقف الثوري في مواجهة سياسة التطبيع وإسقاطها كما سجله الرفيق جمال براجع[1]، حيث يقول: "ان مواجهة سياسة التطبيع وإسقاطها، كجزء من المخطط الإمبريالي الصهيوني الرجعي، تستدعي من جميع القوى الوطنية والديمقراطية والثورية إعادة موضعة القضية الفلسطينية في مكانها الطبيعي كإحدى واجهات الصراع ضد النظام المخزني الاستبدادي التبعي الفاقد لأية استقلالية لقراره السياسي إزاء القوى الإمبريالية والصهيونية. كما تستدعي منها تعميق وتوسيع نضالها الوحدوي في إطار "الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع" لمواجهة كافة اشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني في أفق إسقاطه، وفضح المطبعين مؤسسات وشركات وأفراد ، وتكثيف أشكال الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يخوض حاليا مقاومة شعبية موحدة وشاملة في مواجهة سياسة الإرهاب والاستيطان والحصار الصهيونية ومن أجل حقوقه العادلة والمشروعة في العودة وتقرير المصير وبناء دولته الديمقراطية على كامل فلسطين وعاصمتها القدس، وجعل نضالها –أي الجبهة- جزءا من نضال الشعوب العربية والمغاربية وشعوب العالم التواقة الى التحرر من الإمبريالية والصهيونية والأنظمة الاستبدادية عبر العالم".

 

[1] جمال براجع – تطبيع النظام المغربي مع الكيان الصهيوني – 15 نوفمبر 2022