سبل النهوض بجبهة مقاومة التطبيع في مشرق ومغرب الوطن العربي

حجم الخط

بات التطبيع أحد الوسائل السياسية الأساسية لتحقيق أهداف المشروع الصهيوني المتمثلة أساساً في تكريس وجود دولة إسرائيل عبر تصفية القضية الفلسطينية وإفراغها من مضمونها كقضية تحرر وطني لشعب اغتصبت أرضه وتم تشريده، تطبيع بعض الأنظمة العربية إذا أردنا أن نفهم تماماً معنى التطبيع ومعنى مناهضته، فعلينا أن نركز على طبيعة الكيان الصهيوني وطبيعة المخطط الأميركي في المنطقة، إن أهمية الكيان الصهيوني للإمبريالية العالمية تنبع من كونه جزءاً لا يتجزأ من منظومة القوى الإمبريالية، إنه ليس مجرد أداة في يديها، وإنما هو جزء يمثلها في مشرق ومغرب الوطن العربي وامتداد حقيقي عضوي لها، وهو يحقق أهداف الإمبريالية في منطقتنا بتحقيق مشروعه الاستعماري الصهيوني الخاص، ومن ذلك تنبع قوته وضرورته للنظام الإمبريالي العالمي، ما يعني أن التطبيع مع دولة العدو الصهيوني بهذا المعنى، يعني الدخول في اتصالات وعلاقات مخططة تهدف إلى جعل العلاقة معها علاقات طبيعية مناقضة للمقاطعة تماماً، إذ يحمل التطبيع دلالة القبول بوجود إسرائيل بشكلها ونظامها وصيغتها الحالية الكولونيالية الاستيطانية العرقية، وكذلك القبول بدورها، وأيديولوجيتها، ومشروعها الاستيطاني الإحلالي، وكذلك الحال القبول بواقع الفلسطينيين وحالتهم الشاذة تحت الاحتلال.

فمن المعروف أن وظيفة الكيان الصهيوني  تتعدى المنطقة، فهو وليد أيديولوجيا الجناح الأكثر ظلامية وعدوانية في الإمبريالية العالمية، فالصهيونية ليست أيديولوجيا البرجوازية اليهودية فحسب، بل أيضاً أصبحت رأس حربة أيديولوجيا البرجوازية الإمبريالية الأمريكية المهوّدة برمتها، عبر ما يسمى بـ "المسيحية الصهيونية"، لذلك فإن البرجوازية الإمبريالية، وبخاصة الأميركية منها، معنية ببناء الكيان الصهيوني بناء يكسبه قوة ذاتية واستقراراً ورسوخاً ودوراً استراتيجياً في منطقتنا وربما في غيرها من المناطق، ولتحقيق ذلك، فإن الكيان الصهيوني لا يمكن أن يكتفي بثلاثة أرباع فلسطين، وإنما عليه أن يلتهم فلسطين بكاملها على الأقل، بوصفها "أرض إسرائيل"، وهذا هو بالضبط هدف التطبيع العربي الرسمي من أنظمة العمالة في مغرب ومشرق الوطن.

كذلك -وفي سياق التطبيع أيضاً- يسعى الكيان الصهيوني إلى تكريس الهيمنة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً على الدول العربية في محيطه المباشر علاوة على استراتيجيته الهادفة للسيطرة على بلدان مغرب الوطن العربي لكي تصبح هذه الدول سوقاً واسعة للرأسمال المعولم، الأمريكي والصهيوني من ناحية، ولكي تبقى في حالة من التخلف والتبعية والتفكك برعاية أنظمة الكومبرادرو.

وارتباطاً بهذا المشهد يعمل العدو الصهيوني على أن يجبر المحيط العربي على القبول به كياناً طبيعياً وجزءاً متفوقا من المنطقة، بحيث يؤدي دوراً رئيسياً في سياسة المنطقة، فيبني التحالفات للوقوف أمام أي قطر عربي تسول له نفسه الخروج من الإطار الإمبريالي أو مجرد التفكير بذلك.

وفي كل الأحوال فإن عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني يبدأ خطواته الأولى بقرار أمريكي، ثم يتحول إلى أداة أساسية من أدوات الصهاينة، وبالتالي فإن التطبيع هو في جوهره إجبار هذا النظام في مغرب أو مشرق الوطن، على القبول بالأمر الواقع، واقع عبودية كنظام كومبرادوري تابع وعميل، لكي يمارس دوره في معاونة الجلاد الصهيوني المدعوم من الجلاد الإمبريالي، بما يخدم مخططات التحالف الامبريالي/ الصهيوني الهادفة إلى تكريس تخلف وتفكك مجتمعاتنا لضمان بقاء تخلف هيمنة النظام الإمبريالي العالمي، بلداننا ومجتمعاتنا ومنعها من إعادة تشكيل نفسها على أسس وطنية تقدمية وديمقراطية حداثية مستقلة.

في هذا السياق أشير إلى ان تعريف دولة العدو الصهيوني بأنها "دولة يهودية وديموقراطية" فإنه يعني، بحسب القراءة الإسرائيلية، "دولة قومية لليهود لكن بنظام ديموقراطي". أما دولة ديمقراطية فحسب فتعني لا يهوداً ولا عرباً، بل مواطنين، أناس، بشر، لهم حقوق متساوية، وهذا ما ترفضه ذهنية المجتمع الإسرائيلي عموماً وقوى اليمين المتطرف خصوصاً بشقيه العلماني والديني.

 وبالتالي فإن عملية التطبيع الخيانية تعزز التوجه الصهيوني لتحقيق جوهر فكرة "يهودية الدولة" الذي يتلخص  في: استكمال تزييف التاريخ الفلسطيني، وتديين الصراع من جديد بحيث يتم الاحتماء بشعار "مكافحة العنف والإرهاب" للقضاء على ما بقي من مقاومة فلسطينية، وأيضا للتخلص -ولو التدريجي- من عبء الوجود الفلسطيني داخل ما يسمى بـ"الخط الأخضر"، والتمسك بالقدس "موحدة للأبد" تحت سيادة "إسرائيل"، وضم أكبر كتلة ممكنة من أراضي الضفة الغربية ، بحيث يكون للفلسطينيين فقط ما يشبه الحكم الذاتي في هذه الأرض، فيما تكون السيطرة والسيادة الفعلية لـ"إسرائيل" ما بين نهر الأردن والبحر، وبحيث يتم كذلك الفصل والانعزال عن الفلسطينيين تجنباً لخوض الصراع الديموجرافي المستقبلي، إن داخل "إسرائيل"، أو على أرض فلسطين التاريخية كلها.

إن الكيان الصهيوني هو النقيض الاستراتيجي لشعوبنا في مغرب ومشرق الوطن العربي، ومن ثم فإن التناقض بين الطرفين تناقض تناحري مطلق. فإما الكيان الصهيوني المتمدد وإما الأمة العربية الموحدة المتقدمة.

لذلك فإن التعامل مع الكيان الصهيوني وكأنه كيان طبيعي شأنه شأن المجتمع التركي أو الإيراني أو الفرنسي أو الصيني والاعتراف بهذا الكيان هو في جوهره نفي للذات العربية، اي إنه انتحار قومي، لا أكثر ولا اقل. وهو فوق ذلك انتحار للعقل، فقبول الكيان الصهيوني هو في جوهره قبول لأسطورة الأمة اليهودية وأسطورة امتلاكها أرض فلسطين وأسطورة الشعب المختار، وما إلى ذلك من أساطير يرفضها العقل والعلم.

في هذا الصدد، فإننا نتفق على أن الإمبريالية الأمريكية المعولمة تَعتَبِر الكيان الصهيوني امتداداً لها باعتباره حالة إمبريالية صغرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبالتالي فإنها عملت على توفير كافة العوامل، وممارسة كافة الضغوط على مجمل الأنظمة التابعة لها في مغرب ومشرق الوطن العربي، لتثبيت وتفعيل عملية التطبيع والاعتراف العلني بدولة العدو الصهيوني بدلاً من العلاقات السرية التي سادت في مرحلة ما قبل العولمة وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي.

فهي لا تكتفي بأن لا تجد حرجاً في التعامل مع الكيان الصهيوني تعاملاً طبيعياً، وإنما تذهب إلى اعتبار هذا الكيان، هو الكيان الطبيعي الوحيد في المنطقة، من حيث التطور الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والذي ينبغي أن يظل متميزاً بقوته الاقتصادية وامكاناته العسكرية القادرة على إخضاع الأنظمة العربية وتكريس تخلف مجتمعاتها.

إذاً فإن العولمة والخصخصة في بلداننا ترتبطان ارتباطاً موضوعياً حميماً بالتطبيع، فسيادة العقلية النابعة من هاتين الآليتين الضامنتين للمصالح الطبقية للشرائح الحاكمة في بلداننا، شكلت الشرط والمدخل الرئيسي لعملية التطبيع والاعتراف بدولة العدو الصهيوني.

تأسيساً على ما تقدم، فإنني أود التأكيد على الحقيقة الموضوعية التي ترى في أن الصراع بيننا وبين الصهيونية ليس صراعاً بين أديان أو أجناس أو عقائد، وإنما هو - بالمعنى الراهن والاستراتيجي- صراع جماهيري، عربي أمازيغي كردي، ضد التحالف والوجود الامبريالي الصهيوني وحلفائه؛ أنظمة التبعية والتطبيع والعمالة، تلك هي حقيقة الصراع الموضوعية على الرغم من الوضع العربي المنحط الراهن، إذ أن الكيان الصهيوني لن يصبح جزءاً من نسيج المنطقة العربية وسيظل كياناً مغتصباً عنصرياً وعدوانياً في خدمة المصالح الإمبريالية الأمريكية ، ما يعني ضرورة التمسك بهذه الرؤية على الرغم من أحوال الضعف والتشرذم والتفكك والانتهازية التي أصابت معظم أحزاب وفصائل حركة التحرر العربية من جهة، وعلى الرغم من أن "دولة" الكيان الصهيوني بدعم إمبريالي، استجمعت كل مصدر من مصادر القوة وسخّرت لأغراضها وأطماعها كل مركز نفوذ لها في أنحاء العالم، وفي مثل هذه الأوضاع، وبالتالي فإن القوى الثورية الماركسية في بلداننا لن تـفوز على أطماع الصهيونية والقوى الإمبريالية؛ إلا بقدر ما تُحقق من مكاسب تحررية، نهضوية ديمقراطية وثورية: سياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية في ميادين كفاحنا داخل بلداننا عبر مواصلة توعية جماهير الفقراء وتحريضهم وتنظيمهم الأمر الذي يفرض على كافة القوى الثورية الماركسية التداعي للحوار حول سبل تأسيس "جبهة مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني" ، بما يُمهد لمراكمة عوامل نضوج الثورات الشعبية الهادفة إلى إسقاط أنظمة الخضوع والعمالة والتطبيع والتخلف، وتحقيق برامج الثورة الوطنية الديمقراطية بقيادة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي الثوري في كل أقطار الوطن برؤية قومية ديمقراطية تقدمية واضحة، أي إننا سننتصر بقدر ما يكون نضالنا نضالاً ثورياً تقدمياً مشتركاً، ونضالاً ذاتياً يضم كافة الاثنيات الامازيغية والكردية وغيرهما، في سبيل التبلور التقدمي والتجدد الحضاري.

إن مجرد الحق في عالم اليوم لا يكفي، إذا لم تدعمه قوة الردع العسكرية والاقتصادية والاجتماعية الشعبية.. وطالما أن عوامل الاستنهاض الثوري الذاتي، في مجمل أحزاب اليسار العربي، باتت اليوم في حالة شديدة من الضعف والتراجع، وغير مؤهلة –حتى اللحظة- لمجابهة أنظمة وقوى الاستبداد والتخلف والتبعية، مما وفر بالتالي فرص تراكم عوامل الأزمة البنيوية الشاملة فيها، لذلك، فإن رسم أو وضع تصور لمغادرة الأزمة وتجاوزها، يجب أن يبدأ أولاً عبر المراجعة النقدية لكل مكونات الخطاب السياسي وآليات العمل التنظيمي والكفاحي والمطلبي، طوال العقود الأربعة الماضية. كما أن عملية التصدي للوضع المأزوم، والارتقاء بالعامل الذاتي كعقل جمعي، تتطلب توفير عنصر الوحدة الجدلية بين الوعي والممارسة، خاصة وأننا نعيش اليوم، أمام نتيجة مفزعة تتجلى في هذه الهوة المتزايدة الاتساع بين الجماهير من ناحية، وأحزاب اليسار العربي من ناحية ثانية، وهنا تتبدى الحاجة إلى إثارة وتفعيل عملية النقد الذاتي البنَّاء، الذي يستند إلى الحاجة الموضوعية الضاغطة، لتجديدها وإعادة بنائها، عبر ممارستها لعملية التقييم والمراجعة المنهجية العلمية القاسية لكافة برامجها وسياساتها ورؤاها الأيديولوجية، وصولاً إلى التطبيق الخلاق لهذه الأسس على ضوء المتطلبات والضرورات الراهنة والمستقبلية للواقع الخاص في كل بلد عربي على حِدا، دون أي انفصام عن الهدف الاستراتيجي في تحقيق المشروع النهضوي التوحيدي الديمقراطي العربي .

وعلى هذا الأساس، فإننا ندعو إلى البدء في تفعيل عملية الحوار والبحث، -بكثير من الهدوء والتدرج والعمق- بهدف إيجاد آلية حوار فكري من على أرضية الحداثة والماركسية، حول كل القضايا السياسية والاقتصادية والمجتمعية القومية والإنسانية، بما يخدم ويعزز الدور الطليعي -الراهن والمستقبلي- لقوى اليسار الماركسي العربي، رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تفرضها الهجمة العدوانية الصهيونية الإمبريالية على شعوبنا من جهة، ورغم ما يعتري هذه المرحلة من ادعاءات القوى الليبرالية الهابطة تجاه ضرورات الماركسية وراهنيتها من الجهة الأخرى، الأمر الذي يفرض على قوى حركة التحرر العربية التقدمية أن تبدأ بعملية الاستنهاض الذاتي للخروج من أزماتها، واثبات وجودها ودورها في أوساط جماهيرها في كل قطر عربي أولاً، عبر برامج سياسية ومجتمعية تستجيب لمنطلقات الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية بارتباطها المستقبلي الوثيق بالثورة القومية الديمقراطية الوحدوية ضد التحالف الإمبريالي والوجود الصهيوني والقوى الرجعية والطبقية وكافة قوى الاستبداد والتبعية والتخلف في وطننا العربي، بما يوفر أداة ورافعة نهضوية ديمقراطية تقدمية وثورية تسهم بدورها التاريخي الراهن في تجاوز الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة المتخلفة والمأزومة، صوب تحقيق مهمات الثورة القومية الديمقراطية والمشروع النهضوي العربي على طريق المجتمع العربي الاشتراكي الموحد .

والسؤال هنا.. أين يكمن الطريق إلى المستقبل؟

في الإجابة عن هذا السؤال، أقول: لقد بات الرهان اليوم معقوداً على الرؤية الديمقراطية التقدمية العلمانية في بلادنا، المرتبطة باستنهاض أوضاع القوى والأحزاب والفصائل التقدمية العربية في مغرب ومشرق الوطن.

ذلك إنّ الحديث عن كسر وتجاوز نظام الإلحاق أو التبعية والتخلف والتطبيع الراهن، هو حديث عن ضرورة حتمية في المستقبل المنظور لشعوبنا، العربية والامازيغية والكردية وغير ذلك من القوميات التي تملك الحق بكل أبعاده التاريخية والسياسية والمجتمعية في التعبير عن هويتها الوطنية وثقافتها التاريخية المتميزة.

وهنا بالضبط أشير الى أن المجتمعات المغاربية سواء في المغرب او الجزائر وتونس و ليبيا وموريتانيا ..الخ، تتميز بأن كل منها مجتمع ذو هوية وحضارة أمازيغيه عربية إسلاميه كهوية جامعة من الخطأ تجاوزها من ناحية ، ومن الخطأ أيضا الحديث عنها كهوية مطلقة ومغلقة على ذاتها ، بل بالعكس ، إن التعدد الفكري عموما واليساري الماركسي الديمقراطي خصوصا، كفيل -من خلال التحليل الموضوعي لمصالح الجماهير الشعبية العربية او الأمازيغية- بجسر الفجوات بين العروبة والأمازيغية والكردية وغير ذلك من الاثنيات، وتوفير الأسس والمقومات السياسية والمجتمعية الضامنة لتجاوز كافه الصراعات والتناقضات الإثنية والقومية الشوفينية بينهما ، إذ لا مصلحه للجماهير الشعبية الفقيرة في إثارة النزاعات العنصرية والانفصالية بين الأمازيغ والعرب ، أو بين أية قومية أخرى في بلادنا، حيث أن القوى الرجعية والرأسمالية التابعة في الأنظمة الحاكمة بالتنسيق مع القوى الإمبريالية هي بالضبط صاحبه المصلحة في اثاره النزعات العنصرية الأمازيغية أو العربية ، فالأمازيغي عربي بثقافته حسب المفكر الامازيغي العروبي الراحل محمد عابد الجابري ، كما أن العربي لا يمكنه تجاوز الحضارة الأمازيغية العربية ودورها التاريخي الجامع من خلال التزاوج والاختلاط والحياه المشتركة طوال اكثر من 1400 عام ، وبالتالي هناك -كما يقول الجابري- من تَعَرَّب وهناك من تَمزَّغ ولا وجود للنقاء، ما يعني توفّر الإمكانية الموضوعية والذاتية في الحياة السياسية والمجتمعية المشتركة راهناً ومستقبلاً وفق قواعد وأسس الديمقراطية والنهضة والتقدم الإنساني ، ومن منطلق مقتضيات المصلحة العربية والأمازيغية المشتركة التي يمكن أن تلتحم في اطار جامع ومشترك بعيداً عن أية نزعة عنصرية أو متعصبة، مثالنا على ذلك العديد من النخب الامازيغية الوطنية والتقدمية المناضلة في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر.

من هنا، فإن الدعوة إلى مقاومة المشروع الامبريالي وعولمة الاستسلام، ومقاومة الكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني، ومقاومة كل أشكال التطبيع معه، هي دعوة إلى تفعيل كافة أشكال النضال السياسي والطبقي ضد أنظمة الكومبرادور في بلادنا وإسقاطها، وتمثل أحد أبرز عناوين الصراع العربي الراهن ضد التحالف الأمريكي الصهيوني وأدواته في بلادنا، من أجل تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية.

لذلك، فإن التحدي الكبير الذي يواجهنا اليوم، يجب أن يبدأ بعملية تفعيل النضال السياسي والطبقي وتوجيهه صوب تغيير سياسي ثوري يحطم أنظمة التبعية والاستبداد والفساد في بلادنا، وذلك انطلاقاً من وعينا بأن هذه الأنظمة شكلت الأساس الرئيسي في تزايد واتساع الهيمنة الامبريالية على مقدرات وثروات شعوبنا العربية، كما شكلت الأساس الرئيسي في تزايد انتشار عملية التطبيع والاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني الغاصب في بلادنا.

فمن المعروف أن جميع الوعود الإسرائيلية للدول العربية بخصوص الاستفادة من السلام مع دولة العدو الإسرائيلي هي وعود كاذبة ، لم تتحقق لا في مصر ولا في الأردن ولا في قطر ولا في المغرب، ولن تتحقق في الامارات وعمان والبحرين والسودان والسعودية، ذلك أن إسرائيل لن تكون حلا للهزيمة الحضارية والعلمية للعرب، بل ستعمل على تعميق التخلف ودعم الكتل والصراعات الاثنية والطائفية التي أجهضت المجتمع وقمعت مبدعيه، ما سيدفع إسرائيل -بالتنسيق مع الامبريالية الامريكية- الى استنزاف الموارد واستغلال الأسواق لمصلحتها ومصلحة شركاتها ومهندسيها وعمالتها المدربة وذلك للحفاظ على تفوقها ومكانتها فيما يسمى بالشرق الأوسط الجديد!

في هذا الجانب لا يمكنني أن أتجاوز تأثير اتفاق أوسلو الكارثي الذي فتح أبواباً ومبررات لدى معظم الأنظمة الرجعية والكومبراورية التي كانت - كما يبدو – تنتظر بلهفة توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو لكي تبادر الى الاعتراف والتطبيع بالكيان الصهيوني، واستخدموا الذريعة الانتهازية بقولهم: ما دامت منظمة التحرير اعترفت، فلماذا هذا ممنوع على بقية بلدان العرب؟ هذا ما قاله ويقوله مسؤولون مغاربة وسودانيون وخليجيون وسعوديون وغيرهم ليبرروا عمالتهم وتطبيعهم، وذلك استجابة لمقتضيات المصالح الطبقية للشرائح الكمبرادورية والبيروقراطية الحاكمة التي عززت أوضاع التبعية والخضوع لتلك الأنظمة بحيث بات التطبيع مع دولة العدو الصهيوني مسألة منسجمة مع طبيعة العلاقة التاريخية مع النظام الامبريالي الأمريكي، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية التي وفرت الظروف لإقامة العلاقات الأمنية السرية بين دولة العدو الإسرائيلي، والدول العربية الرجعية التي وجدت في توقيع أوسلو فرصتها للإعلان الصريح عن علاقتها التاريخية القديمة مع الكيان الإسرائيلي.

 في ضوء ما تقدم، فإننا نتفق على أن "دولة" العدو الإسرائيلي هي تحقيق سياسي وتجسيد عملي وسياسي للمصالح الرأسمالية العالمية، وفي إطار العلاقة العضوية بين الحركة الصهيونية من ناحية، ومصالح النظام الاستعماري الرأسمالي من ناحية ثانية، فإن هذه العلاقة تؤكد على أن "إسرائيل" انطلاقاً من دورها ووظيفتها ، لم تنشأ إلا كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني العنصري في بلادنا، المستند إلى دواعي القوة الغاشمة والاغتصاب، لحماية مصالح النظام الرأسمالي العالمي، وهي بالتالي "دولة" لا يمكن أن ترقى عبر هذا الدور الوظيفي لتصبح جزءا من نسيج هذه المنطقة العربية ومستقبلها بأي شكل من الأشكال، مهما تطورت وانتشرت عمليات التطبيع معها.

لذلك فإن المهمة العاجلة أمام حركات وفصائل اليسار الماركسي في مغرب ومشرق الوطن أن تعيد النظر في الرؤية الإستراتيجية التحررية الديمقراطية، الوطنية/القومية ببعديها السياسي والمجتمعي، انطلاقاً من إعادة إحياء وتجدد الوعي بالطبيعة العنصرية الاستيطانية للدولة الصهيونية، ودورها ووظيفتها كمشروع إمبريالي لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف –بنفس الدرجة- ضمان السيطرة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي وثروات شعوبه واحتجاز تطوره.

 وبالتالي يجب أن تتأسس الرؤية لدى كافة قوى اليسار في بلداننا انطلاقاً من ذلك وليس من خارجه، فالدولة الصهيونية هي مركز ثقل الوجود الإمبريالي في الوطن العربي، ووجودها حاسم لاستمرار السيطرة الامبريالية، وضمان استمرار التجزئة والتخلف والتبعية بالتعاون الكامل مع الأنظمة الرجعية الكمبرادورية انسجاماً مع مصالحها الطبقية.

لهذا كان ضرورياً أن يعاد طرح الرؤية الوطنية من قلب الرؤية التقدمية القومية الديمقراطية الأشمل، التي تنطلق من فهم عميق للمشروع الامبريالي الصهيوني وأدواته البيروقراطية والكومبرادورية والرجعية، من أجل أن يعاد تأسيس نضالنا الوطني والديمقراطي على ضوء هذه الرؤية، ولا شك في أن هذه المهمة هي أولاً مهمة الماركسيين في فلسطين والوطن العربي، وفي طليعتهم قوى اليسار الماركسي الثوري المناضل من اجل استرداد الحقوق التاريخية على ارض فلسطين.

وإلى أن تتوافر هذه الشروط تدريجيا سوف يستمر الصراع كما هو، مهما طال الزمن، انطلاقا من قناعتنا الراسخة باستحالة أن يصبح الكيان الصهيوني جزءاً من نسيج مجتمعات وشعوب مغرب ومشرق الوطن العربي، وبالتالي لا مستقبل لهذا الكيان في بلادنا إلا من خلال استمرار الدعم الإمبريالي من ناحية، واستمرار أحوال الضعف والاستسلام المرتبطة بأوضاع التبعية والاستبداد والتخلف السائدة في أنظمة العمالة الراهنة من ناحية ثانية.

إن إيماني واقتناعي بآفاق المستقبل الواعد لشعوب بلداننا، لا يعني أنني أؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دور رئيسي وأحادي فيها، بل يعني – من خلال أحزاب وفصائل اليسار الماركسي الثوري - تفعيل وإنضاج عوامل وأدوات التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، والبحث عن مبرراتها وأسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقع بلداننا الراهن وذلك من خلال المسيرة النضالية صوب إسقاط أنظمة الرجعية والكومبرادورية، وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.

لذلك كله، "ينبغي علينا أن نحلم" بشرط أن ندرك سر قوة الحلم الثوري الذي يُشكل منبع التغيير والثورة، وأن القوة الثورية هي مالك هذا الحلم ودون أن تغادر أقدامه تعرجات الواقع، للوصول لهدف نبيل وغاية واضحة، وهل هناك أنبل من غاية تحقيق دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية لكل سكانها تلتزم سياسياً وقانونياً وأخلاقياً بحل المسألة اليهودية في إطارها، دون أن يعني ذلك تراجعنا عن موقفنا اتجاه مواصلة النضال في هذه المرحلة من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس كحل مرحلي لا يلغي حقوق شعبنا التاريخية في وطنه فلسطين.

وبالتالي لابد من توفير كل المقومات والعناصر المطلوبة لتعزيز واستنهاض النضال الثوري في مجتمعاتنا، تجسيداً لشوق الجماهير وتطلعاتها وأمانيها للخلاص من كل معانياتها ومن كل أشكال اضطهادها، بما يضمن مشاركة جميع القوى الاجتماعية –خاصة جماهير العمال وكل الكادحين- في تحديد خياراتها واتجاهات تطورها تجسيداً لإرادتها وهدفها المركزي، وفكرتها التوحيدية وفق منظور الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.

أخيراً، إننا -كفصائل وأحزاب يسارية ماركسية ثورية عرباً وأكراد وأمازيغ وغير ذلك من التنوع الاثني في بلادنا - سواءً في نضالنا التحرري ضد التحالف الامبريالي الصهيوني ، أو في نضالنا وصراعنا الطبقي الديمقراطي الاجتماعي الداخلي، فإن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى مهماز يتقدم بها نحو الحداثة بكل مفرداتها ومفاهيمها العقلانية المتمثلة في حرية الفرد والمواطنة والديمقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية ، وهي وجوه لعملة واحدة ، وبدون ذلك لن نستطيع أن ندخل الحداثة ونحن عراه، متخلفين وتابعين ومهزومين يحكمنا الميت (عصبيات وصراعات طائفية أو اثنية طبقية، رجعية شوفينية إلى جانب شيوخ قبائل وأمراء وملوك عملاء ورؤساء مستبدين) أكثر من الحي (النهوض الوطني الديمقراطي)، ففي مثل هذه الاوضاع يحكمنا الماضي أكثر من المستقبل...فما هي قيمة الحياة والوجود لأي مثقف ماركسي ديمقراطي إن لم يكن مبرر وجوده تكريس وعيه وممارساته في سبيل مراكمة عوامل الثورة على الأموات والتحريض عليهم لدفنهم الى الأبد لولادة النظام الثوري الاشتراكي الديمقراطي الجديد المعبر عن مصالح وتطلعت العمال والفلاحين الفقراء والجماهير الشعبية.

إنني لا أزعم –كيساري ماركسي وطني وقومي ديمقراطي- أنني أنفرد بالدعوة إلى إعادة تجديد وتفعيل الفكر الماركسي ومشروعه النهضوي في بلادنا؛ ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسًا مقلقًا ومتصلًا في عقل وتفكير العديد من المفكرين والمثقفين في إطار القوى الوطنية والقومية اليسارية الديمقراطية، على مساحة الوطن العربي كله، وهي أيضًا ليست دعوة إلى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة.

وفي هذا السياق، فإن رؤيتي؛ تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، نحو رؤية ديمقراطية تقدمية، تدرجية، وتتعاطى مع بلداننا في مشرق ومغرب الوطن كوحدة تحليلية واحدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا؛ مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الديمقراطية اليسارية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –؛ انطلاقًا من إدراكي بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا فلسطين وغيرها من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في النظام السياسي وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي، أو للهويات الإثنية والطائفية والعشائرية كما هو الحال في العراق و السودان و اليمن ولبنان والجزائر .

في ضوء ما تقدم فإن الحاجة الى بلورة وتفعيل هدف التحرر الوطني ضمن حركة التحرر القومي العربية وبرنامجها الذي يؤكد على إنهاء الانظمة المستبدة في راهن مجتمعاتنا العربية، هو هدف عاجل؛ آني واستراتيجي رئيسي، لكونها أنظمة تخنق الاستقلال الروحي والفكري للمواطن، بل وتتغذى من هذه العملية، عبر محاولاتها تفريغ المواطن وحرمانه من العدالة الاجتماعية ومن حرية الرأي والإرادة والضمير والحس النقدي، كي ما تحوله إلى أداة تنفيذ فحسب، يتلاعب بها عقل واحد أو "رب" عمل واحد، هو جهاز السلطة أو نظام الحكم القمعي بمختلف تلاوينه ومنطلقاته.

فبقدر ما يستدعي النضال السياسي والديمقراطي الداخلي أناسًا على درجة عالية من الاستقلال السياسي والفكري وحرية الرأي والمعتقد والإرادة والمسؤولية، يقوم انحطاط السلطة على تعميم الاستلاب والتبعية الشخصية والإلحاق؛ فرجل السياسة الاستبدادية في بلادنا (ملكًا أو رئيسًا أو أميرًا أو شيخًا) لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية/الإسلام السياسي لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر إلى جانب احتكار السلطة، وكلاهما له مصالح طبقية رأسمالية رثة وتابعة ولا يتناقض أي منهما أبدًا مع النظام الإمبريالي، وهنا بالضبط تتجلى العلاقة الجدلية لمفهوم التحرر الوطني والقومي في النضال ضد الوجود الإمبريالي الصهيوني من ناحية وضد انظمه الكمبرادور من ناحية ثانية، للخلاص من واقع التبعية والانحطاط الراهن وتحرير الوطن والمواطن.

إن حالة الانحطاط المنتشرة في بلدان الوطن العربي، نشأت مع بداية الانفتاح الساداتي، ثم اتفاقيات كامب ديفيد وما تبعها من معاهدة للصلح بين مصر وإسرائيل، ثم اتفاقية أوسلو ووادي عربة وصولًا إلى اعتراف معظم الدول العربية بإسرائيل والتطبيع معها، وبالتالي التخلي ليس عن حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه فحسب، بل أيضًا توفير الفرص للتحالف الإمبريالي الصهيوني صوب مزيد من السيطرة على مقدرات شعوبنا وتكريس تخلفها واستمرار احتجاز تطورها؛ الأمر الذي يجعل من النضال التحرري الوطني ضرورة موضوعية مرتبطة عضويًا بمسيرة النضال الطبقي ضد الاستغلال على طريق تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.

لذلك فإن قوى وأحزاب اليسار العربي، تواجه في هذه اللحظة الثورية، تحدياً كبيراً، سيحدد مصيرها ووجودها ومستقبلها.

     إن وقف حالة الانهيار لا يمكن أن يتم بالشعارات والعناوين القطرية البائسة ولا بنظيرتها الدينية واللاهوتية ولا بتكريس الحدود القطرية القائمة. بل يمكن القول إن حماية القطر والحدود لا يمكن أن يتم بالأيديولوجيا القطرية، وإنما بأيديولوجيا التحرر القومي الوحدوية والاشتراكية والأممية على طريق تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية باعتبار تلك الأهداف استمرار لثورة التحرر الوطني ضد الوجود الامبريالي الصهيوني من جهة وهي استمرار لسيرورة النضال الديمقراطي المطلبي أو الصراع الطبقي، وذلك انطلاقا من العلاقة الجدلية بين الثورة الوطنية الديمقراطية والثورة الاشتراكية .

في هذا الجانب أقول بوضوح شديد: يخطئ كل من يحاول القفز على المهام الوطنية الديمقراطية والسير رأساً نحو "الثورة الاشتراكية" أو كل من يحاول حصر المرحلة الوطنية الديمقراطية في الأفق البرجوازي المسدود، فالثورة الديمقراطية كما أفهمها  تهدف إلى استكمال التحرر الوطني في الميدان الاقتصادي الاجتماعي ، كما وترمي إلى القيام بتحولات طبقية /اجتماعية ثورية تضمن انهاء كل أشكال التبعية للإمبريالية وإنهاء هيمنة الكومبرادور والرأسمالية الطفيلية واقتصاد السوق في المجتمع لحساب اقتصاد التسيير الذاتي والتعاوني والقطاع العام والمختلط،  وتفكيك وإنهاء مظاهر التخلف ، وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة .

وانطلاقا من وعينا بأن مفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية هو مفهوم علمي يرتبط - ارتباطاً وثيقاً- بتناقضات الصراع الطبقي والصراع الوطني، فهي ثورة تحرر وطني مناضلة ومقاومة للوجود الامبريالي الصهيوني من أجل اجتثاثه من بلادنا.. وهي في نفس الزمان والمكان ثورة ديمقراطية ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتبعية تستهدف اسقاطها ومواصلة النضال من اجل استكمال التحرر والسيادة الوطنية في الاقتصاد والسياسة والثقافة وكافة قضايا المجتمع برؤية طبقية تستهدف أساساً مصالح الشرائح الفقيرة وكل الكادحين المضطهدين.

بهذا التوجه في الرؤية والبرامج، فإن الثورة الوطنية الديمقراطية تستهدف القيام بتحولات نوعية عريضة، ديمقراطية ثورية تحقق إنهاء البنية الطبقية الرأسمالية وادواتها الطبقية بكل تلاوينها ومسمياتها ومصادرة ثرواتها، ضمن خطة تستهدف بناء الاقتصاد الوطني ،وتحقيق التنمية المستقلة من خلال: إقامة التعاونيات، وتطوير وتوسيع الصناعة الوطنية والزراعة المكثفة والتجارة الداخلية مع دور مركزي للدولة بالنسبة لأولويات التجارة الخارجية ، بما يضمن توفير أسس بناء البنية الفوقية للنظام الثوري الديمقراطي الجديد بالقطيعة مع البنية الامبريالية والطبقية  الكومبرادورية السابقة وكافة البنى اليمينية السائدة. 

 وهنا بالضبط، فإن الثورة الوطنية أو الشعبية الديمقراطية هي مرحلة انتقالية صوب الاشتراكية.  وبالتالي، فإن القوى التقدمية اليسارية الماركسية في بلدان وطننا في المشرق والمغرب، يجب أن تتوحد أو تأتلف في إطار جبهوي في هذه اللحظة وتكرس كل جهودها من أجل مراكمة توسعها ونضالها في أوساط جماهيرها – في كل قطر من بلداننا - ضد الإمبريالية وتوابعها أنظمة الاستبداد والتخلف على طريق استمرار النضال لاستكمال مهمات واهداف الثورة الوطنية الديمقراطية من أجل إقامة مجتمع اشتراكي خالٍ من الاستغلال، قائم على مبادئ ومفاهيم الحداثة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والعلمانية.

لقد آن الأوان لنقل أحزاب وفصائل اليسار الماركسي المناضلة ضمن إطار حركة التحرر الوطني العربية التقدمية من حالة التراجع إلى حالة الهجوم المضاد، ويستدعي ذلك البدء بتصحيح التعامل مع التناقضات في المنطقة العربية، واعتبار التناقضات والصراعات الطبقية تناقضاً رئيسياً ومدخلاً وشرطاً أولياً في النضال الوطني والقومي، التحرري والمجتمعي ضد أنظمة التطبيع الرجعية والتابعة واسقاطها وتحقيق الثورة الوطنية الديمقراطية بأفاقها الاشتراكية كشرط لا بد منه للخلاص من الوجود الإمبريالي الصهيوني في بلادنا.

إن وعي القوى الثورية الماركسية في بلادنا لهذه المخاطر يعني اقتناعهم الكلي باستحالة أن يصبح الكيان الصهيوني جزءً من نسيج  المنطقة العربية، بل سيظل كياناً مغتصباً عنصرياً وعدوانياً في خدمة المصالح الإمبريالية الأمريكية، وبناءً على ذلك رفض هذه القوى وإدانتها – بصورة مطلقة- لكل محاولات التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني، إلى جانب التزامها بتقديم كل وسائل الدعم والتضامن للنضال التحرري الفلسطيني، انطلاقا من أن هذا النضال هو نضال من أجل الحرية والاستقلال والعودة، وهو أيضاً نضال تحرري علماني لا يواجه ديانةً بديانة أخرى، لأنه نضال يجسد الفعل الانساني الحامل لأخلاق المقاومة وممارستها من أجل إقامة فلسطين الديمقراطية  لكل سكانها وحل المسألة اليهودية ضمن هذا المنظور، وذلك انطلاقاً من أن السيادة القانونية لشعبنا الفلسطيني على أرض وطنه فلسطين مرتبطة بالحق الشرعي (التاريخي). وبالتالي، فإن كل أشكال السيطرة أو السيادة السياسية الاغتصابية الاستيطانية الصهيونية وكافة المتغيرات السياسية التي عرفتها فلسطين طوال (75) عاماً الأخيرة لا تلغي إطلاقا السيادة القانونية المرتبطة بالحق التاريخي لشعبنا الفلسطيني على أرض فلسطين حاضراً ومستقبلاً، كجزء لا يتجزأ من الإطار السياسي الاقتصادي الاجتماعي القومي العربي.

وبالتالي، فلا أحد يستطيع طمس حقوق شعبنا في أرض وطنه فلسطين ما يفرض على الأحزاب الثورية الماركسية في بلداننا ضرورة التمسك بهذه الرؤية في نضالها الطليعي ضد التطبيع والاعتراف ، كما في نضالها الداخلي ضد أنظمتها العميلة وفق المنظور الطبقي الثوري ، بما يضمن لها أن تُحقق مكاسب تحررية، واجتماعية طبقية ونهضوية ديمقراطية وثورية في ميادين كفاحها الطليعي مع جماهيرها من العمال والفلاحين الفقراء وكافة المضطهدين، الأمر الذي يدعوني إلى مطالبة رفاقي في هذه الأحزاب سرعة التداعي للحوار المشترك بهدف تأسيس "جبهة مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني"، جنباً إلى جنب مع مسيرة نضالها من أجل مراكمة عوامل نضوج الثورات الشعبية الهادفة إلى إسقاط أنظمة الخضوع والعمالة، وتحقيق برامج الثورة الوطنية الديمقراطية في كل أقطار الوطن العربي، أي إننا سننتصر بقدر ما يكون نضالنا نضالاً ثورياً تقدمياً مشتركاً، ونضالاً ذاتياً يضم كافة الاثنيات الأمازيغية والكردية وغيرهما، في سبيل استنهاض التبلور الثوري التقدمي والتجدد الحضاري.