الطريق إلى نكبة إسرائيل

حجم الخط
ربما تكون ذكرى نكبة احتلال فلسطين ونشأة كيان الاغتصاب الإسرائيلى مناسبة لاجترار أحزان حقيقية، لكنها أيضا ـ في سنتها الرابعة والستين ـ مناسبة لتجديد الأمل في تحرير فلسطين وهدم كيان الاغتصاب . ليست هذه دعوة لتفاؤل مجـــــانى، ولا مراوغة للنفس الأمارة بالأمانى، بل قراءة لمشهد قد تختلط فيه الصــــور، وقد تتلاطم التوقعات، لكن خط سير حركة التاريخ يبدو في تقــــديرنا ظاهرا، وخلاصته أن إسرائيل كفــــت عن إمكانية النصر، وحل عليها زمان الهزيمة، برغم أنها تملك كل ما في الدنيا من متاع الحروب . تأملوا ـ فقط ـ خط سير معركة الأمعاء الخاوية، وما فعله إضراب عشرات الأسرى الفلسطينيين عن الطعام، وصحوة الروح الفلسطينية التى أحدثها الإضراب، وتكون حركة شعبية واسعة بإلهام إضراب الأسرى، بدا فيها القلب الفلسطينى نابضا موحدا في الضفة وغزة وعرب 1948 من وراء الجدار العازل، بينما بدت إسرائيل في حال الإنكشاف والهلع، وليس بيدها غير تفريق الأسرى، ومحاولة إطفاء النار التى أشعلها قرار الإضراب، وبإجراءات تزيد النار اشتعالا، فقد بدت حركة نصرة الأسرى كأنها توحد الفلسطينيين على صوت واحد، وتكتسح حواجز الانقسام السياسى بين سلطة عباس وحركة حماس . بدا إضراب الأسرى كأنه تجديد لوعد المقاومة بطريقة جديدة، بدا كعمل سلمى يفتتح ثورة سلمية، أقرب في صورتها وحوافزها إلى طراز الثورات العربية المعاصرة، فمنذ بدء 2011 عام اندلاع الثورات، تكررت حالات استنهاض ثورة شعبية مماثلة في فلسطين، وكلنا يذكر تحرك جماعات من الشباب الفلسطينى تحت شعار (الشعب يريد إنهاء الإنقسام)، ثم تحرك جماعات من الفلسطينيين في الشتات العربى إلى خطوط الحدود، وقد بدت نمطا متكررا فعالا، وتداعت ظواهره عبر العام الأخير، ثم زيادة وتيرة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المتحدية لجدار الفصل العنصرى، ثم حوادث الصمود الأسطورى للفلسطينيين في القدس، وكلها ـ أى هذه التحركات المتفرقة ـ بدت كمدد مضاف لحلم صناعة ثورة شعبية سلمية، تتجاوز عقبات الاحتراب الفصائلى المهلك، وتؤسس لقوة الشعب التى لايغلبها غلاب، وبذات الإلهام الغريزى الذى أسقط نظما موالية لإسرائيل، برغم أن هذه النظم بدت طويلا كأنها من الجبال الرواسى، وبدت كأنها تعيش في خلاء صحراوى، تحولت فيه الشوارع والميادين العربية إلى ما يشبه الربع الخالى، وحيث لاخبر ولا حس ولا صوت ولا حركة، ومع نداء الثورات تحول الموقف بكامله، واكتشف الناس المهانون قوتهم الكامنة في اتحادهم، وفى خروجهم مجتمعين إلى الشوارع والميادين، وفى الاحتشاد السلمى المتفوق أخلاقيا، وفى الصبر على الإبتلاء والاستعداد الهائل للتضحية، وفى البقاء الثابت المتصل على حالة الغضب الهادر، وإلى أن يتحقق الهدف مهما طال الزمن، وإلى أن تسقط النظم بضربة شعب، وتملما كما يمكن أن يسقط احتلال إسرائيل بضربة احتشاد الشعب الفلسطينى لشهور متصلة، وبصياغة أهداف متدرجة قد يكون ملائما أن تبدأ بشعار (الشعب يريد إنهاء الاحتلال) في القدس والضفة وغزة كمرحلة أولى . وقد نحب أن نجازف بتوقع ثورة شعبية فلسطينية من الطراز العربى الجديد، وتبدو لنا المعارك الشعبية المبعثرة على السطح، ومن حول شعارات إنهاء حصار غزة، أو شعارات تفكيك الاستيطان وهدم الجدار العازل، أو شعارات وقف تهويد القدس، أو شعارات دعم صمود الأسرى المضربين عن الطعام، والقابلة للتصاعد مع انضمام أسرى جدد إلى معركة (الأمعاء الخاوية)، أو خوض المعركة بالتناوب بين ما يصل إلى خمسة آلاف أسير فلسطينى، وهنا تبدو رمزية الأسرى بالذات ملهمة، فهم العنوان الأشد وضوحا على محنة أسر فلسطين بكاملها، وهم بحكم النوعية البشرية خلاصة ممتازة من التكوينات القيادية الطليعية، وهم ينتمون بالطبع إلى فصائل فلسطينية متعددة، لكن فلسطين تجمعهم بأكثر مما تفرقهم سياسات الفصائل، وهم الفئة الأكثر تألقا في الوجدان الفلسطيني المقاوم، والمؤهلة أكثر من غيرها لإلهام الشعب الفلسطيني، وهو ما يفسر الحيوية المضافة للتحرك الشعبي من حول قضية إضراب الأسرى، وبهدف أبعد من تحرير الأسرى وردهم إلى أهاليهم، فالشعب الفلسطيني الآن في أمس الاحتياج إلى حركة عفوية توحد وتحشد وتلهم، وتنهي ركود الاستقطاب الفصائلي المسيطر على كتلة غالبة من السكان، وتخلق النواة الصلبة لثورة الفلسطينيين على الطراز العربي الجديد . وقد يرى البعض أننا نحلم، ونحن كذلك بالفعل، لكن الفارق كبير بين الحلم والوهم، الوهم معلق في فراغ وجداني وتاريخي، بينما الحلم وثيق الارتباط بوجدان اللحظة وحقائق التاريخ الجاري، فالباعث الحافز على الثورة التي نريدها قائم ومتصل، وهو ـ في المجمل ـ تحدي وجود الاحتلال الإسرائيلي وكيان الاغتصاب، وطبيعته العدوانية المتأصلة مما يخلق سببا مباشرا للثورة كل يوم وكل ساعة، وحيوية الشعب الفلسطيني تتجدد بعد سنوات ركود طالت منذ توقف الانتفاضة الثانية، واختيارات الفصائل المتسيدة تصطدم بحائط الخسران الأكيد، وكلها ـ باستثناءات قليلة ـ سقطت في خطيئة ترك المقاومة إلى المساومة، وهو ما يفسح المجال لخيال مقاوم من نوع مختلف ، لايبدد بل يجدد، يجمع ولا يفرق، ولا يتنكر لميراث المقاومة المسلحة، بل يضيف إليها زادا جديدا، ومقاومة مفتوحة لشراكة كل الناس لا الفدائيين وحدهم، يملك كل فلسطيني أن ينضم إليها، وبقراره الذاتي التلقائي، ولا يحتاج إلى تدريب خاص، فهو يخرج إلى ثورة الصدور العارية المسلحة بالصبر والإيمان، ويتحد مع إخوته في مواكب مقدسة تليق بقداسة فلسطين، يحتملون الأذى معا، وتحفزهم قوة الجموع على الثبات في الميادين، وفضح العنصرية النازية الإسرائيلية على مرأى من البشر جميعا، فالثورات السلمية الآن تنتقل توا بالصوت والصورة، ومشاهد الجموع الفلسطينية في الثورة الجديدة تغري بالانضمام إليها، وتخلق روحا موحدة في الشتات الفلسطيني، وتحول الملايين من جماهيرالثورات العربية المعاصرة إلى قوة دعم يومي مرئي للحــق الفلسطيني، فالكل ينتظر شرارة الثورة الجديدة على أبواب القدس، وإحياء هدف التحرير الفلسطيني بزحف الناس العاديين الذين يصنعون التاريخ، ويغيرون خرائط الدنيا . ولا أحد يمكنه المزايدة على كفاحية الشعب الفلسطيني، فقد خلقته محنة النكبة خلقا جديدا، وهو أكثر الشعوب العربية تعليما وأفضلها وعيا، وظل لعقود مصدر إلهام حي متجدد للثوريين العرب على اختلاف أقطارهم، وكان شرفا عظيما لأجيال من الثوريين العرب أن التحقت بحركات المقاومة الفلسطينية، وأن حمل بعضها سلاح الفدائيين، وأن ذهبوا في قوافل الشهداء والأسرى، ومع أجواء الثورات العربية المعاصرة، ومع ثورة مماثلة تتداعى بشائرها في قلب فلسطين، تنضج ظروف لمشاركة الجميع في عمل واحد، ومن كل في موقعه وقطره وساحاته، وفي سياق معركة مؤكدة الكسب، تستمد وقودها من نكبة فلسطين، وتفتح الطريق إلى نكبة إسرائيل . ’ كاتب من مصر Kandel2002@hotmail.com