في الذكرى (71) لثورة 23 يوليو- هل هنالك إمكانية للبناء عليها مصريا ولاستنهاض المشروع التحرر العربي؟

حجم الخط

بعد مرور (71) عاماً على ثورة يوليو (تموز) 1952، يدور الجدل حولها وحول الفكر القومي عامة ، ففي حين يرى البعض أن الثورة لا تزال راهنة في عناوينها  ومبادئها الرئيسية، وأن كانت بحاجة إلى إجراء تعديلات عليها، في ضوء المتغيرات الراهنة، بحيث  لا تمس البعد القومي لها كإطار بمضمون تقدمي في السياق الاستراتيجي، يرى البعض الآخر من قوميين وماركسيين، الذي غادروا النهج القومي والتقدمي، واندغموا في إطار الفكر النيوليبرالي، أن ثورة يوليو والنهج القومي باتا من الماضي، في ظل العولمة وتحول العالم إلى قرية صغيرة ،متجاهلين حقيقة أن العولمة الراهنة في أساسها الاقتصادي  هي عولمة إمبريالية بثالوثها: "صندق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية" والأفعى السامة ممثلةً بالشركات متعدية الجنسية.

الإجابة على السؤال أعلاه، يقتضي (أولاً) العودة إلى مبادئ الثورة ومرتكزاتها التي شكلت مبرراً لها في الانقلاب على النظام الملكي في مصر، والتحول إلى ثورة بمضامين وطنية وقومية وطبقية، والاجابة على أسئلة محددة بشأن راهنيتها، وإمكانية تطبيقها في مصر وغيرها من الدول العربية.

ويقتضي ( ثانياً) عدم التعامل مع  ذكرى الثورة، كمناسبة لاستذكار التاريخ المجيد لها فحسب، بل  التعامل معها بوصفها محطة لمراجعة مخرجات هذه الثورة، والبناء على فكر ومنجزات خالد الذكر جمال عبد الناصر، في سياق نضالي، يستهدف التخلص من حالة الردة التي قادها الرئيس الراحل أنور السادات في انقلاب 15 مايو 1971، وما أفرزته من خراب سياسي واقتصادي واجتماعي، تم تتويجه باتفاقات كامب ديفيد 1978 وبالمعاهدة مع الكيان الصهيوني 1979 -تلك الاتفاقات التي التزم بها نظام مبارك  والنظام الحالي -رهنت مصر بما تمثله من ثقل جيوسياسي وقومي وديمغرافي وإقليمي ودولي إلى إقليم تابع للرجعية العربية، ومرتهن لدى الكيان الصهيوني وللإمبريالية الأمريكية، وما زالت مفاعيلها القاتلة قائمة حتى اللحظة الراهنة.

وفي التقدير الموضوعي أن مهمة البناء على تجربة 23 يوليو في مصر، ليست مهمة الناصريين – على اختلاف تشكيلاتهم الحزبية – فحسب، بل مهمة كل القوى التقدمية في مصر والوطن العربي، من أجل التخلص من نهج التبعية، وإعادة الاعتبار لدور مصر القائد للأمة العربية، دور ”إقليم القاعدة لحركة التحرر العربية” الذي أرساه خالد الذكر جمال عبد الناصر.

 كما أن الإجابة على سؤال راهنية الثورة، يقتضي التوقف ابتداءً أمام المبادئ الستة التي طرحتها الثورة عام 1952 وطورتها عبر قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961 وطبقتها على أرض الواقع وهي: القضاء على الإقطاع/ القضاء على الاستعمار/ القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم/ قامة حياة ديمقراطية سليمة/ إقامة جيش وطني قوي/ إقامة عدالة اجتماعية.

هذه المبادئ في التقدير الموضوعي لا زالت راهنة، فهي وإن قدمت المبررات لقيامها ضد النظام الملكي، فهي تقدم ذات المبررات للثورة ضد نظام كامب ديفيد، بعد أن تم الارتداد عليها من قبل نظام السادات وبقية حلقات كامب ديفيد الحاكمة في مصر. فالملكيات الكبيرة عادت للإقطاع  بعد ارتداد السادات ومن خلفه عن قوانين الإصلاح الزراعي، والاستعمار عاد إلى مصر من خلال نهج التبعية، ورأس المال بات هو الحاكم من خلال قوى الكومبرادور وممثليها في السلطة، والديمقراطية القائمة في مصر اليوم هي ديمقراطية ليبرالية زائفة لا ترتكز على الديمقراطية الاجتماعية، والجيش الوطني وإن كنا لا يمكن أن نشك في وطنية، بات جهازاً مهنياً في يد القوى الطبقية الحاكمة، ناهيك أنه بات يشكل ثقلاً ذي مغزى في الاقتصاد المصري، والعدالة الاجتماعية تبخرت في ظل الانحسار الهائل لدور القطاع العام والتوزيع البائس للثورة بعد التخلص من النهج الاشتراكي الذي أرسته ثورة 23 يوليو بقيادة عبد الناصر.

ولم تضرب مبادئ يوليو الستة فحسب، بل صفيت أيضاً قوانين يوليو الاشتراكية وتطبيقاتها، وما نجم عنها من تنمية مستقلة وطبقة عاملة مصانة حقوقها، وتصنيع ثقيل لتصنيع آلات وماكينات المصانع الاستهلاكية، للتخلي عن استيرادها من الخارج، والتنمية المستقلة ضربت ببيع مصانع القطاع العام للقطاع الخاص وتصفية الإصلاح الزراعي وصفيت كذلك منجزات بيان (30) مارس بعد حرب 1967، والذي كان في محصلته "ثورة في الثورة".

والدوائر السابقة للثورة التي حددها عبد الناصر، ضربت في الصميم، فبعد أن لعبت الثورة دوراً ريادياً وقائداً على الصعيد القومي، وعلى الصعيدين الافريقي والإسلامي والأممي، أصبحت في مربع التبعية للغرب الرأسمالي، ولدويلات النفط وصديقاً للكيان الصهيوني، بعد أن كانت العدو اللدود للكيان الصهيوني ورافعةً للواء القضية الفلسطينية.

ما تقدم ينبغي إعادة الاعتبار لمبادئ وثوابت ثورة 23 يوليو، دون الارتهان لمقولات من نوع أن هذه المبادئ والمتركزات لا تصمد في ظل تطورات العولمة، تلك المقولات التي أثبتت زيفها في ظل التطورات في أمريكا اللاتينية، وتمكن العديد من القوى الثورية والتقدمية من الوصول إلى سدة الحكم، وأمثلة فنزويلا وبوليفيا، والأوروغواي وكولومبيا وغيرها ماثلة أمامنا.

صحيح قد يطرأ تغيير نسبي في التطبيق على مبادئ الثورة، في ظل المتغيرات الجديدة دون الاخلال بجوهرها، ما يقتضي تطوير هذه المبادئ إلى نظرية ثورية قابلة للتطبيق والاستفادة من المحاولات النظرية الجادة ،من قبل منظرين  تقدميين وقوميين وناصريين أمثال المفكر الماركسي محمود أمين العالم – الذي صاغ وثيقة التنظيم الطليعي بتكليف من عبد الناصر - وعصمت سيف الدولة "نظرية الثورة العربية" وعبد الله الريماوي "الحركة العربية الواحدة" -التي رغم أهميتها لم تأخذ طريقها للتطبيق، وظلت حبيسة الكتب والمكتبات، فأي نظرية – مطلق نظرية – تثبت صحتها من خلال التطبيق العملي الذي قد يكشف ثغراتها ويغنيها.

ويبقى السؤال الأهم، يكمن في الأداة التنظيمية التي تحمل لواء المشروع النهضوي القومي الناصري، وهنا لا بد من وقفة نقدية أمام مسار الأحزاب الناصرية، في مصر والدول العربية، فهذه الأحزاب فشلت في خلق حالة التفاف جماهيري حولها، وظلت أسيرة حالة نخبوية برجوازية صغيرة في المدن، ولم تغادر حتى اللحظة السياق المطلبي، ولا يمكن في ضوء برامجها وصفها بأنها أحزاب ثورية وطليعية، ناهيك أنها باتت تعيش حالة تنافس مرضي فيما بينها، وبعضها بات أقرب للنظام من قربه لبقية الأحزاب الناصرية في هذا البلد أو ذاك.

والمخرج من هذه  الصورة ة للأحزاب الناصرية، التي قد  تنسحب على العديد من الأحزاب القومية واليسارية العربية، يكمن في إعادة الاعتبار للفكر القومي بمضمونه الاشتراكي على الصعيد الجماهيري، وفي تجاوز البعد النخبوي الطبقي في العضوية وعدم حصر عملها في المدن، وفي تجاوز الأبعاد الداخلية لأزمتها -التي هي جزء من الأزمة العامة لحركة التحرر العربية- وفي إعادة الاعتبار لطرح الحركة العربية الواحدة سواء في السياق الحزبي أو في السياق الجبهوي، كأداة ورافعة  للثورة العربية من المحيط إلى الخليج  ضد أطراف معسكر العدو، بمضمون طبقي اشتراكي، على قاعدة من التكامل الاقتصادي والتنمية المستقلة ورفض التبعية، وبالاستناد إلى مبادئ ومرتكزات ثورة يوليو، ووفق برنامج يستجيب للتحديات التي تعصف بالأمة، من تطبيع وصهينة  وخيانات متصلة لقضية فلسطين.