حول الفاشية

إيطاليا: كيف انتصر موسوليني 
في الوقت الذي لا تعود تكفي فيه الوسائل البوليسية والعسكرية «العادية» ل
حجم الخط
إيطاليا: كيف انتصر موسوليني في الوقت الذي لا تعود تكفي فيه الوسائل البوليسية والعسكرية «العادية» للديكتاتورية البرجوازية، بالإضافة إلى الواجهات البرلمانية، لإبقاء المجتمع في حالة توازن –يبدأ دور النظام الفاشي. تقوم الرأسمالية، من خلال الأداة الفاشية، بتحريك جماهير البرجوازية الصغيرة المهتاجة وزمر البروليتاريا الرثة المنحطة والمحبطة- الأعداد التي لا تحصى من البشر الذين أوصلهم الرأسمال المالي ذاته إلى اليأس وحالة السعار. إن البرجوازية تطلب من الفاشية وظيفة شاملة، فعندما تلجأ إلى وسائل الحرب الأهلية تصر على تأمين السلام (الإجتماعي) لسنوات. والأداة الفاشية باستعمالها البرجوازية الصغيرة كبش قتال وبسحقها جميع المعوقات في طريقها، إنما تقوم بوظيفة شاملة. وبعد أن تنتصر الفاشية تجمع في يديها، كملزمة فولاذ، بشكل مباشر وفوري، جميع أجهزة ومؤسسات السلطة العليا والسلطة التنفيذية والإدارية والتعليمية للدولة: مجمل جهاز الدولة مع الجيش والبلديات والجامعات والمدارس والصحافة والنقابات والتعاونيات.. وعندما تصبح الدولة فاشية، ذلك لا يعني أنه ستتغير فقط أشكال وأساليب الحكومة وفقا للنمط الموضوع من قبل موسوليني- إن المتغيرات في هذا الحقل هي في الأخير ذات أهمية ثانوية، لكنها تعني قبل كل شيء وفي أغلب الأحوال أن منظمات العمال قد أبيدت، وأن البروليتاريا قد أختزلت إلى حالة هلامية غير متماسكة، وأنه تم تشكيل نظام إداري متغلغل بعمق بين الجماهير يمنع أي تبلور مستقل للبرولبتاريا. هنا بالضبط يكمن لب الفاشية.. كانت الفاشية الإيطالية النتيجة المباشرة لخيانة الإصلاحيين للانتفاضة البروليتارية الإيطالية. فمنذ انتهاء الحرب (الحرب الأولى) كان هناك ميل صاعد للحركة الثورية في إيطاليا، أدى في سبتمبر/(أيلول) 1920 إلى الاستيلاء على المصانع والصناعات من قبل العمال. كانت ديكتاتورية البروليتاريا حقيقة فعلية، كل ما كان ينقصها هو تنظيمها واستخلاص جميع الاستنتاجات الضرورية منها. لكن الاشتراكية الديموقراطية ارتعبت وتراجعت. ووقفت البروليتاريا تواجه الفراغ، بعد مجهودها المقدام و البطولي. وبات تمزق الحركة الثورية العامل الأكثر أهمية في نمو الفاشية ففي شهر شتنبر/(أيلول وصل التقدم الثوري إلى نقطة جمود، وفي شهر ديسمبر/كانون الأول) كانت أول مظاهرة رئيسية للفاشية (السيطرة على مدينة بولونيا). صحيح أن البروليتاريا، حتى بعد كارثة سبتمبر/(أيلول)، كان بمقدورها أن تشن معارك دفاعية. لكن الاشتراكيين الديموقراطيين فكروا بشيء واحد فقط –كيف يسحبون العمال من تحت نيران الهجوم لقاء تنازل تلو الآخر. فقد أملوا أن يضع تصرف العمال الطّيع «الرأي العام» البرجوازي في مواجهة الفاشية. والأكثر من ذلك أنهم اتكلوا كثيرا على مساعدة الملك فيكتور عمانوئيل الثالث. ولغاية آخر ساعة منعوا العمال بكل قوتهم من قتال عصابات موسوليني. إلاّ أن ذلك لم ينفعهم شيئا. فالتاج انتقل مع الشريحة العليا من البرجوازية إلى جانب الفاشية. وعندما رأى الاشتراكيون الديموقراطيون في اللحظة الأخيرة أن الفاشية لا يمكن كبحها بواسطة تصرفات طيعة، قاموا بدعوة العمال لإضراب عام، إلاّ أن دعوتهم واجهت إخفاقا تاما. لقد رطبوا البارود لئلا ينفجر، وعندما قاموا أخيرا بوضع فتيل مشتعل بيد مرتجفة لم يحترق البارود. بعد سنتين من إنطلاق الفاشية كانت في السلطة واستطاعت ترسيخ نفسها بفضل واقع أن الفترة الأولى من سيطرتها تلاقت مع فترة ازدهار اقتصادي أعقب ركود سنة 21-1922. لقد حطم الفاشيون البروليتاريا المتراجعة بالقوى الهجومية للبورجوازية الصغيرة، وذلك لم يتم بضربة واحدة. فحتى بعد استلام السلطة واصل موسوليني سيره باحتراس شديد: لقد كان يفتقر لنماذج جاهزة. فخلال السنتين الأوليين لم يتم حتى تعديل الدستور. و اتخذت الحكومة الفاشية طابع حكومة ائتلافية، في الوقت نفسه الذي كانت العصابات الفاشية منشغلة فيه باستعمال الهراوات والسكاكين والمسدسات. إنه فقط بشكل تدريجي انبثق إلى الوجود ذلك النظام الفاشي الذي تضمن اللجم التام لجميع المنظمات الجماهيرية المستقلة. لقد أحرز موسوليني ذلك على حساب تبقرط الحزب الفاشي نفسه. فبعد استخدامه للقوة الضاربة للبورجوازية الصغيرة، قام بخنقها في ملزمة الدولة البورجوازية. لم يكن يستطيع أن يفعل غير ذلك، حيث أن الأوهام التي أشاعها لدى الجماهير بدأت تصبح بشكل متسارع الخطر الأكثر راهنية الماثل أمامه. فما أن تصبح الفاشية بيروقراطية حتى تتماثل بشكل وثيق مع الأشكال الأخرى من الديكتاتورية العسكرية والبوليسية. إذاك لا تعود تملك دعمها الاجتماعي السابق، حيث أن الاحتياطي الرئيسي للفاشية –البورجوازية الصغيرة- يستنفد. إن القصور الذاتي التاريخي هو وحده الذي يمكن الحكومة الفاشية من إبقاء البروليتاريا في حالة من التشتت والعجز. ألمانيا: صعود الهتلرية إن الفقرة الموجزة جدا، الواردة أدناه، حول الشروط المسبقة التاريخية للفاشية قد اقتطعت من آخر مقال كتبه تروتسكي مباشرة قبل مصرعه على يد قاتل ستاليني مأجور في غشت/(آب) 1940. (تم تدوينه من نص مسجل على الدكتافون) إن هذه الفقرة الموجزة تتضمن خلاصة التجربة السياسية الأوروبية بين حربين عالميتين. لقد مرت ألمانيا في عهد جمهورية فايمر في الـ«الدورة» (التي يصفها تروتسكي) لغاية شروع النازية بمسيرتها نحو السلطة في سيرورة مواجهة لخلفيات أزمة سنة 1929 العالمية. فالحركة العمالية الألمانية، أكبر حركة عمالية في أوروبا، كانت منقسمة بين الاشتراكيين الديموقراطيين والشيوعيين. وقد ألح تروتسكي على أن تتم مواجهة الهجوم النازي بالقوة الموحدة لمجمل الطبقة العاملة وبالتالي للحزبين الاشتراكي-الديموقراطي والشيوعي والنقابات الإصلاحية والشيوعية. إن سياسة «الجبهة الموحدة» هذه قد ثم رفضها من قبل الزعماء الاشتراكيين الديموقراطيين من جهة والزعماء الشيوعيين من جهة أخرى. وقد اعتبر الأخيرون، مع ستالين، بأن النازيين والاشتراكيين الديموقراطيين (أو «الاشتراكيين الفاشيين») يجب أن ينظر إليهم ليس كأخصام بل «كتوأمين». والأكثر من ذلك أن ستالين والزعيم الشيوعي الألماني ارنست ثالمان قد أمرا الشيوعيين بالتصويت مع النازية عندما حاولوا تجريد الحكومة الاشتراكية الديموقراطية في بروسيا من حقوقها من خلال استفتاء في صيف 1930. وبدون كلل، حذر تروتسكي من الانجراف الأعمى نحو الكارثة. فقد توقع أن النازية في السلطة ستسحق الحركة العمالية الألمانية بمجملها وتطلق العنان لحرب عالمية، كما ستقوم بالهجوم على الاتحاد السوفياتي. ولقد ردت عليه الصحافة الشيوعية بإدانته كـ«شريك للاشتراكيين الفاشيين» و«تاجر مذعور» و«مغامر» و«عميل للرأسمالية الألمانية»، والخ. وفي أوائل عام 1933 استولى هتلر على السلطة دون أن يواجه مقاومة جدية، وبدأت مأساة ألمانيا تحت الصليب المعقوف تتوضح تدريجيا. إن المختارات التالية تتناول الظواهر المختلفة لتلك التطورات. والمقتطف الثاني مأخوذ من المدخل إلى ماذا بعد؟. وكالمقتطف الثالث المأخوذ من ما هي الفاشية؟، تمت كتابته سنة 1932. أمّا النص الرابع المكتوب في يونيو/(حزيران) 1933 فيتضمن ربما أعمق تحليل لتروتسكي عن الهتلرية وتوقعا للحرب العالمية الثانية. دورة التطور الفاشي [13]. … لقد أظهر كل من التحليل النظري والتجربة التاريخية الغنية لربع القرن الأخير، وبقوة مماثلة، أن الفاشية هي في كل مرة المرحلة الأخيرة لدورة سياسية محددة مؤلفة من الأطوار التالية: أكثر أزمات المجتمع الرأسمالي حدة، نمو تجذر الطبقة العالمة، نمو التعاطف تجاه الطبقة العاملة وتوق إلى التغيير من جانب البورجوازية الصغيرة الريفية والمدينية، الارتباك الحاد وسط البورجوازية الكبيرة، مناوراتها الجبانة و الخيانية الهادفة إلى نجنب الذروة الثورية، إنهاك البروليتاريا وارتباكها ولا مبالاتها النامية، تفاقم الأزمة الاجتماعية، يأس البورجوازية الصغيرة وتوقها إلى التغيير، والعصب الجماعي للبرجوازية الصغيرة و استعدادها للإيمان بالعجائب، واستعدادها لإجراءات عنف، ونمو عدائيتها تجاه البروليتاريا التي خيبت آمالها. تلكم هي المقدمات لتشكل سريع لحزب فاشي وانتصاره. أزمة الرأسمالية الألمانية [14] لقد برهنت الرأسمالية في روسيا عن أنها الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية بسبب تخلفها الشديد. وفي الأزمة الحالية تظهر الرأسمالية الألمانية نفسها كالحلقة الأضعف وذلك لسبب معاكس تماما: فبالضبط لأنها النظام الرأسمالي الأكثر تقدما.. لكما أصبحت القوى المنتجة في ألمانيا أكثر تجهيزا وكلما امتلكت قوة ديناميكية أكبر، كلما اختلفت أكثر في نظام الدولة في أوروبا –نظام مشابه «لنظام» أقفاص في حديقة حيوانات محدودة مفقرة. إن الرأسمالية الألمانية تجد ذاتها عند كل مفترق في الأحداث، في مواجهة تلك المشاكل نفسها التي حاولت حلها بواسطة الحرب. لقد تأهبت البورجوازية الألمانية، من خلال حكومة هوهنزلرنية [15]، للعمل من أجل «تنظيم أوروبا». ومن خلال نظام برونينغ كورتويس [16] حاولت.. أن تشكل اتحادات جمركية مع النمسا. لهكذا مستوى محزن اختزلت مشاكلها ومقدراتها وأبعادها! لكن حتى الإتحاد الجمركي لم يتحقق. وكبيت الساحرة في حكايات الجن كان النظام الأوروبي بمجمله يقبع على رجلي دجاجة. كان التفوق الكبير والصحي لفرنسا سيتداعى بحال توحد بضعة ملايين نمساوي مع ألمانيا. فبالنسبة لأوروبا بشكل عام ولألمانيا بشكل أولي لم يكن هناك أي تقدم عبر الطريق الرأسمالي. إن أي حل مؤقت للأزمة الراهنة يتحقق عبر تفاعل آلي لقوى الرأسمالية ذاتها –على عظام العمال- سيعني فقط انبعاث تناقضات الرأسمالية في المرحلة القادمة بأشكال أكثر حدة وتركزا. وبلغة الاقتصاد العالمي، فإن أوروبا هي على منعطف انحداري. لقد انطبعت بشدة على جبينها الطوابع الأمريكية: مشروع دوز، مشروع يونغ، قرار هوفر بتأجيل دفع الديون المستحقة. إن أوروبا تحيا كلها الآن على الإعاشة الأمريكية. وينتج عن أفول الرأسمالية تحلل اجتماعي وثقافي. فالطريق مقطوع أمام المزيد من التفرقة المنظمة داخل الأمة، حيث أن ازدياد نمو البروليتاريا يأتي من خلال تقليص الطبقات الوسطى. كما أن إطالة أمد الأزمة تجر فقط إلى افقار البرجوازية الصغيرة وتحويل أعداد متزايدة من التجمعات العمالية إلى فئة البروليتاريا الرثة. إن هذا التهديد أكثر من أي تهديد آخر، يمسك ألمانيا المتقدمة رأسماليا من عنقها. إن الجزء الأكثر عفونة في أوروبا الرأسمالية هو البيروقراطية الاشتراكية الديموقراطية. لقد دخلت التاريخ تحت لواء ماركس وانجلس. ووضعت لها هدفا إسقاط الحكم البرجوازي. وجاء الصعود المفاجئ الكبير للرأسمالية ليباغتها ويجرها في يقظتها. فباسم الإصلاح تخلت عن الثورة، أولا من خلال أعمالها وفيما بعد من خلال أقوالها بالذات. إن كاو تسكي قد استعمل لوقت طويل في الواقع لغة الثورة، مكيفا إياها مع حاجات الإصلاحية. أمّا برنشتين [17] بالمقابل فطلب التخلي عن الثورة: فبالنسبة إليه، دخلت الرأسمالية فترة تطور سلمي دون أزمات ودون حروب. مثال نبوءة! وفي الظاهر، بدا بين كاوتسكي وبرينشتين خلاف لا يمكن حله. لكنهما في الواقع أكملا بعضهما البعض الآخر بشكل متناسق كفردتي الحذاء اليمنى واليسرى لقدمي الإصلاحية. وجاءت الحرب (1914)، فقامت الاشتراكية الديموقراطية بدعم الحرب باسم الوفرة المستقبلية، وبدل الوفرة بدأ الانحطاط. لم يعد السؤال هو ما إذا يجب استنتاج حتمية الثورة من عدم ملاءمة الرأسمالية، ما إذا يجب العمل بهدف توافق العمال مع الرأسمالية عن طريق الإصلاحات. فالسياسات الجديدة للاشتراكية الديموقراطية اليوم تقوم على الحفاظ على المجتمع البرجوازي عبر التضحية بالإصلاحات. إلا أنه حتى ذلك لم يكن المرحلة الأخيرة من الاندحار. فالأزمة التي تهز الرأسمالية بعنف أجبرت الاشتراكية الديموقراطية على التضحية بثمار النضال الاقتصادي والسياسي الطويل، وبالتالي على الضغط على العمال الألمان للعيش في مستوى حياة آبائهم وآباء آبائهم وأجدادهم. ليس هناك موضوع سخرية تاريخي أكثر مأساوية وفي الوقت نفسه أكثر تنفيرا من هذا الانحلال المقرف للإصلاحية وسط حطام جميع انتصاراتها و أمالها. إن المسرح في أيامنا هذه يجهد نفسه من أجل التحديث. فليعرضوا دائما مسرحية جيرهارت هوبتمان «الحائك»: هذا العمل المسرحي الأكثر حداثة. لكن على مدير المسرح أن لا ينسى أن يحجز مقاعد الشرفة الأمامية لقياديي الاشتراكية الديمقراطية . إلا أن أولئك القياديين ليسوا في مزاج المسرح الان، فلقد وصلوا إلى أعلى حدود تكليفهم. فهناك مستوى لا يمكن للطبقة العاملة الألمانية أن تهبط تحته بإرادتها لأي مدة من الزمن، مع ذلك فالنظام البرجوازي الذي يقاتل للبقاء ليس في مزاج الاعتراف بذلك المستوى. إن قانون الطوارئ الذي فرضه براونينغ ليس إلا بداية الاستطلاع. فنظام براونينغ يقبع على الدعم الجبان والغادر للبيروقراطية الاشتراكية الديموقراطية، التي بدورها تعتمد على الدعم الكئيب والفاتر لشريحة من البروليتاريا. إن النظام المبني على مراسيم بيروقراطية هو نظام غير مستقر وغير جدير بالثقة ومؤقت، فالرأسمالية تتطلب سياسة أخرى أكثر حسما. فالدعم الذي تقدمه الاشتراكية الديموقراطية لها، مع بقاء عين واحدة لها منصبة على عمالها، ليس فقط غير كاف بالنسبة للأهداف الرأسمالية، بل أصبح مصدرا للمضايقة أيضا. لقد مرت فترة أنصاف الحلول وأصبح على البرجوازية، من أجل إيجاد مخرج لها، أن تتخلص من جميع الضغوطات التي تفرضها المنظمات العمالية، أن تستأصل تلك المنظمات وتحطمها وتسحقها نهائيا. عند هذا المنعطف يبدأ الدور التاريخي للفاشية.تقوم الفاشية بتحريض تلك الطبقات التي هي مباشرة فوق البروليتاريا وتخاف دوما من أن تجبر على النزول إلى الأوساط البروليتاريا، فتنظمها وتسلحها بمساعدة الرأسمال المالي المتستر بالدولة الرسمية، وتوجهها نحو استئصال المنظمات البروليتارية من أكثرها ثورية إلى أكثرها اعتدالا. إن الفاشية ليست فقط نظام انتقام وقوة وحشية وإرهاب بوليسي،إنها نظام حكومي خاص مبني على استئصال جميع عناصر الديموقراطية البروليتارية داخل المجتمع البورجوازي. وتكمن مهمة الفاشية ليس فقط في تحطيم الحرس الشيوعي المتقدم بل في إبقاء مجمل الطبقة في حالة من التشتت المفروض. ولهذه الغاية لا تكفي التصفية الجسدية للقطاع الأكثر ثورية للعمال. من الضروري أيضا تهشيم جميع المنظمات المستقلة والطوعية، وإزالة جميع التحصينات الدفاعية للبروليتاريا، واستئصال كل ما تم تحقيقه خلال ثلاثة أرباع قرن من قبل الاشتراكية الديموقراطية والنقابات. فالحزب الشيوعي يقف أيضا في التحليل الأخير على قاعدة تلك الإنجازات. لقد هيأت الإشتراكية الديموقراطية جميع الظروف الضرورية لانتصار الفاشية. لكنها هيأت بهذا أيضا ظروف تصفية نفسها سياسيا. إنه لمن الصواب تماما وضع مسؤولية قانون براونينغ للطوارئ وخطر الهمجية الفاشية على الاشتراكية الديموقراطية. غير أنه من الهراء التام أن تتم مماثلة الاشتراكية الديموقراطية بالفاشية. خلال ثورة 1848 هيأت البرجوازية الليبرالية من خلال سياستها المسرح لانتصار الثورة المضادة، التي بدورها أضعفت الليبرالية. لقد هاجم ماركس وإنجلس البرجوازية الليبرالية ليس بأقل حدة مما فعله (فرديناند) لاسال [18]، وكان نقدهما أكثر شمولية من نقده. لكن عندما وضع اللاساليون الإقطاعية المضادة للثورة مع البرجوازية الليبرالية في «كتلة رجعية واحدة»، اغتاظ ماركس وإنجلس عن حق من هذه الراديكالية المتطرفة الزائفة. إن الموقف الخاطئ للاساليين قد حولهم في عدة مناسبات إلى أعوان لا إراديين للملكية، بالرغم من الطبيعة التقدمية العامة لعملهم، الذي كان أكثر أهمية بكثير وأكثر شأنا من انجازات الليبرالية. وتعيد نظرية «الاشتراكية-الفاشية» إنتاج الخطأ الأساسي نفسه للاساليين على أرضية تاريخية جديدة. فبعد وضع الاشتراكيين الوطنيين والاشتراكيين الديموقراطيين في رزمة فاشية واحدة، تذهب البيروقراطية الستالينية إلى حد القيام بنشاطات كدعم إستفتاءهتلر، وهو أمر لم يكن أفضل على طريقته الخاصة من تحالفات لاسال مع بسمارك. في الحقبة الراهنة، على الشيوعية الألمانية في نضالها ضد الاشتراكية الديموقراطية أن تبني نفسها على حقيقتين غير منفصلتين: 1) المسؤولية السياسية للاشتراكية الديموقراطية في تقوية الفاشية 2) التضارب التام بين الفاشية وتلك المنظمات العمالية التي تعتمد عليها الاشتراكية الديموقراطية. إن التناقضات داخل الرأسمالية الألمانية قد وصلت في الوقت الحاضر إلى حالة توتر أصبح الانفجار عندها حتميا. كما وصل تكيف الاشتراكية الديموقراطية إلى ذلك الحد الذي تكمن ما دونه الإبادة الذاتية. وبلغت أخطاء البيروقراطية الستالينية ذلك المد الذي تكمن ما دونه الكارثة. هكذا هي المعادلة الثلاثية التي تميز الوضع في ألمانيا. إن كل الأمور تتوازن الآن على حافة سكين. مأساة البروليتاريا الألمانية [19] إن أقوى بروليتاريا أوروبية –أقوى بالنسبة لموقعها في الإنتاج وثقلها الاجتماعي، وقوة منظماتها- لم تبد مقاومة لهتلر منذ وصوله إلى السلطة وبدء هجماته العنيفة الأولى ضد المنظمات العمالية. هذا هو الواقع الذي يجب أن تبنى عليه جميع الحسابات الاستراتيجية المستقبلية. إنه من الغباء الواضح الاعتقاد بأن التطور اللاحق لألمانيا سيسير على الطريقة الإيطالية، أي أن هتلر سيقوي سيطرته بشكل تدريجي، خطوة وراء خطوة… كلا، إن المصير اللاحق للاشتراكية الوطنية يجب استخلاصه من تحليل الظروف الألمانية والعالمية، وليس من تشابه تاريخي بحت. لكن هناك جملة أمور واضحة: إذا كنا منذ شتنبر/(أيلول) 1930 وما بعد قد طالبنا الأممية الشيوعية بسياسة قريبة المدى في ألمانيا، فمن الضروري الآن وضع سياسة للمدى البعيد. وقبل أن تصبح أي معركة حاسمة ممكنة مرة أخرى، سيكون على الطليعة البروليتارية أن تعيد توجيه نفسها، أي بكلام آخر، أن تدرك ما قد حصل، وتحدد مسؤوليات الهزائم التاريخية الكبيرة، وتستشف طريقا جديدة، وبهذه الطريقة تعيد ثقتها بنفسها. إن الدور الإجرامي للاشتراكية الديموقراطية لا يتطلب تعليقا: فالأممية الشيوعية قد أنشأت منذ أربع عشرة سنة بالضبط لكيما تسحب البروليتاريا من تحت التأثير المثبط للمعنويات للاشتراكية الديموقراطية. وإذا لم تنجح لغاية الوقت الراهن، وإذا كانت تجد البروليتاريا الألمانية نفسها عاجزة وغير مسلحة ومشلولة في وقت الاختبار التاريخي الأعظم، فإن اللوم المباشر والفوري يقع على قيادة الكومنتيرن بعد لينين. هذا هو الاستنتاج الأولي الذي يجب استخلاصه فورا. لقد حافظن المعارضة البسارية (التروتسكيين) للنهاية، تحت الضربات الغادرة للبيروقراطية الستالينية، على إخلاصها للحزب الرسمي. ويشارك الآن البلاشفة اللينينيون (التروتسكيون) في مصير جميع المنظمات الشيوعية الأخرى: لقد اعتقل مناضلونا ومنعت منشوراتنا، وصودرت أدبياتنا. حتى أن هتلر قد أسرع في منع نشرة المعارضة الصادرة في اللغة الروسية. لكن وإذ يتحمل البلاشفة اللينينيون، مع مجمل الطليعة البروليتارية، نتائج الإنتصار الجدي الأول للفاشبة، فإنهم لم ولن يتحملوا حتى ظل مسؤولية للسياسة الرسمية للكومنترن. فمنذ سنة 1923، أي منذ بداية النضال ضد المعارضة اليسارية، ساعدت القيادة الستالينية، حتى ولو بطريقة غير مباشرة، الاشتراكية الديموقراطية بكل قوتها على حرف البروليتاريا الألمانية وإرباكها وإضعافها. لقد أوقفت وكبحت العمال عندما كانت تتطلب الظروف هجمة ثورية شجاعة، وأعلنت عن اقتراب الحالة الثورية عندما أصبحت تلك الحالة في الماضي، ووضعت اتفاقات مع تجار كلام وثرثارين برجوازيين صغار، وترنحت بوهن عند ذيل الاشتراكية الديموقراطية تحت غطاء سياسة الجبهة الموحدة، وأعلنت عن «المرحلة الثالثة» والنضال من أجل «إخضاع الشارع» في ظل ظروف جزر سياسي وضعف الحزب الشيوعي، واستبدلت النضال الجدي بقفزات أو مغامرات أو استعراضات، وعزلت الشيوعيين عن النقابات الجماهيرية، وفي وجه الزمر الهجومية للاشتراكيين الوطنيين ماثلة الاشتراكية الديموقراطية بالفاشية ورفضت الجبهة الموحدة مع المنظمات العمالية الجماهيرية وخربت أدنى مبادرة لدفاع عمالي موحد ، وفي الوقت نفسه خدعت العمال بشكل منظم حول علاقات القوى الحقيقية، وشوهت الحقائق وحولت الأصدقاء أعداءا والأعداء أصدقاء – وشدت الحبل أكثر وأكثر على عنق الحزب، مانعة إياه من التنفس الحر وحتى الكلام أو التفكير. ومن بين الأدبيات الواسعة المكرسة لمسألة الفاشية تكفي الإشارة إلى خطاب ثالمان، الزعيم الرسمي للحزب الشيوعي الألماني الذي شجب أمام الجلسة المكتملة للجنة التنفيذية للكومنتيرن في أبريل/(نيسان) 1931، «المتشائمين»، أي هؤلاء الذين رأوا ما كان سيحدث: «لم نسمح بأن يهزمنا مزاج الذعر … لقد أكدنا باتزان وصلابة حقيقة أن 14 شتنبر/ (ايلول) 1930 كان إلى هذا الحد أو ذاك أفضل يوم عند هتلر، وأنه بعد ذلك لن تأتي أيام أفضل بل أسوأ. إن تقويمنا… قد أثبتته الأحداث.. واليوم، ليس لدى الفاشيين مجال أكثر للضحك». ومشيرا إلى إنشاء الاشتراكية الديموقراطية تجمعات دفاعية، يصف تالمان في الخطاب نفسه هذه التجمعات فيقول أنها لا تختلف بأي شكل عن الدوريات الصدامية للاشتراكيين الوطنيين، وأن الطرفين يهيئان بشكل متواز لإبادة الشيوعية. اليوم، تالمان معتقل. وبمواجهة الرجعية المنتصرة، يقف البلاشفة اللينينيون في صف تالمان. لكن سياسة تالمان هي سياسة ستالين، أي السياسة الرسمية للكومنترن. هذه السياسة بالضبط هي سبب إضعاف المعنويات التام للحزب في لحظة الخطر، عندما يخسر القياديون رؤوسهم، وعندما ينغلب أعضاء الحزب غير المعتادين التفكير على أمرهم، وعندما تسلم المواقع التاريخية المبدئية دون قتال. إن النظرية السياسية الخاطئة تحمل في طياتها عقابها الذاتي. وقوة الجهاز واستحالة معالجته يزيدان فقط من أبعاد الكارثة. ما هي الاشتراكية الوطنية؟ [20] إن العقول الساذجة تظن بأن منصب الملكية مركزه الملك نفسه، في عباءته المزينة وتاجه، في عظامه و شراييبه. ومنصب الملكية عمليا هو العلاقات المتبادلة بين الناس. إن الملك ملك فقط لأن مصالح وأضرار الملايين من الناس منعكسة في شخصه. وعندما يجرف فيض التطور هذه العلاقات المتبادلة، عندما يظهر الملك فقط كذكر منبوذ بشفة سفلى متدلية. فالذي كان يدعى مرة الفونسو الثامن (ملك إسبانيا 1886-1931) يمكن أن يتحدث عن ذلك بانطباعات حية. يختلف القائد بإرادة الشعب عن القائد بإرادة الله في أن الأول مضطر إلى إخلاء الطريق لنفسه، أو على أية حال، مساعدة ظروف الأحداث على اكتشافه. ومع ذلك فالقائد هو دائما علاقة بين الناس، هو العرض الفردي الذي يلائم الطلب الجماعي. إن الجدال حول شخصية هتلر يصبح أحدّ كلما كان يتم البحث عن سر نجاحه في شخصه بالذات. في الوقت نفسه، من الصعب إيجاد شخصية سياسية أخرى لها المواصفات نفسها لتكون مركز قوى تاريخية مجهولة.فليس كل بورجوازي صغير ساخط قادرا على أن يصبح هتلر، لكن جزءا من هتلر موجود في كل برجوازي صغير ساخط. إن النمو السريع للرأسمالية الألمانية قبل الحرب العالمية الأولى لم يتضمن بأي معنى من المعاني تحطيما بسيطا للطبقات الوسيطة. فبالرغم من تدميرها لبعض الشرائح البرجوازية الصغيرة إلاّ أنها خلقت شرائح أخرى جديدة: حول المصانع من حرفيين وأصحاب دكاكين، وداخل المصانع من تقنيين و مدراء. ولكن بينما تحافظ الطبقات الوسطى على نفسها –لا بل تزداد عددا- تشكل البرجوازية الصغيرة القديمة والجديدة أقل بقليل من نصف سكان الأمة الألمانية- إلاّ أنها فقدت الأثر الأخير من الاستقلالية. فهي تعيش في دائرة الصناعات الكبيرة والنظام المصرفي على فتات طاولة الاحتكارات و الكارتيلات وعلى الاسترضاء الإيديولوجي لمنظريها و سياسييها التقليديين. لقد وضعت هزيمة 1918 جدارا في طريق الإمبريالية الألمانية وتحولت القوى المحركة الخارجية إلى حالة داخلية. وتحولت الحرب إلى ثورة. لكن الاشتراكية الديموقراطية التي ساعدت الهوهنزولرنيين في إيصال الحرب إلى نتيجتها المأساوية، لم تسمح للبروليتاريا بإيصال الثورة إلى نتائجها. فأمضت أربعة عشرة سنة تجد أعذارا لا حصر لها في وجودها هي بالذات لديموقراطية فايمار أما الحزب الشيوعي فدعا العمال إلى ثورة جديدة لكنه برهن عن عجزه عن قيادتها. لقد شهدت البروليتاريا الألمانية صعود وانهيار الحرب والثورة والبرلمانية والبلشفية الكاذبة. وبرهنت دينامية الطبقة العاملة، في الوقت الذي استنزفت فيه الروابط القديمة للبرجوازية، عن ضعف شديد. لقد أصابت فوضى ما بعد الحرب الحرفيين والبائعين المتجولين والموظفين المدنيين، وذلك ليس بأقل قساوة مما أصابت العمال. وكانت الأزمة الاقتصادية في الزراعة تدمر الفلاحين. فانحدار الشرائح المتوسطة لم يعن تحولها إلى بروليتاريا بقدر ما كانت البروليتاريا نفسها تخرج جيشا جرارا من العاطلين عن العمل المزمنين. وأمام إفقار البرجوازية الصغيرة التي تكاد تغطي نفسها بالرباط والجوارب من الحرير الاصطناعي، باتت تتآكل جميع العقائد الرسمية، وقبل كل شيء، مذهب الديموقراطية البرلمانية. وقد زاد من حدة الأزمة الاجتماعية تعددية الأحزاب، والحمى الباردة للانتخابات، والتغيير اللامتناهي للوزارات بخلقها مشكلات لتركيبات سياسية عقيمة. وفي جو وصل إلى حرارة متقدة من جراء حرب، وهزيمة، وتعويضات تتضخم، واحتلال الرور، وأزمة، وحاجة ويأس قامت البرجوازية الصغيرة ضد جميع الأحزاب القديمة التي اربكتها وخدعتها. إن الشكاوى الحادة للملاكين الصغار غير البعيدين أبدا عن الإفلاس، ولأولادهم الجامعيين دون وظائف، وبناتهم دون مهر ودون من يطلبهن للزواج تطلبت نظاما ويدا من حديد. لقد رفع راية الاشتراكية الوطنية مدعون من الصفوف القيادية الوسطى والدنيا في الجيش القديم. فالضباط ذوو المراتب ودون المراتب، المقلدون الميداليات لخدماتهم البارزة لم يكونوا ليصدقوا بأن بطولاتهم وتضحياتهم ليس فقط لم تعد بأي نفع على أرض آبائهم بل لم تمكنهم حتى من توقع الاعتراف بجميلهم. وبالتالي كان كرههم للثورة و للبروليتاريا. وفي الوقت نفسه لم يريدوا أن يرتضوا بأن يعيدهم أصحاب البنوك و الصناعيون والوزراء إلى الوظائف المتواضعة كمحاسبين ومهندسين وموظفي بريد ومعلمي مدارس. وبالتالي كانت «اشتراكيتهم». لقد تعلموا في الأيسر وفيردان أن يخاطروا بأنفسهم وبالآخرين وأن يتكلموا لغة الأمر التي أرعبت ولجمت بقوة البرجوازية الصغيرة خلف الخطوط. هكذا أصبح هؤلاء الناس زعماء. لقد برز هتلر في بداية مهنته السياسية ربما فقط بسبب مزاجه الخاص: فصوته أعلى بكثير من صوت الآخرين و عقليته المحددة أكثر ثقة بالنفس. إنه لم يأت إلى الحركة ببرنامج جاهز، إذا ما تجاهلنا عطش الجندي المهان للأخذ بالثأر. بدأ هتلر بالشكوى و التذمر حول شروط فيرساي، وتكاليف المعيشة المرتفعة وفقدان احترام ضابط الصف المؤهل، ومكائد أصحاب البنوك والصحافيين ذوي القناعات الفسيفسائية. كان هناك في البلد العديد من المحطمين والغرقى مع أثار جروح وكدمات حديثة. جميعهم أرادوا أن يضربوا بقبضاتهم على الطاولة. وهذا ما كان يحسنه هتلر أكثر من الآخرين. صحيح أنه لم يعرف كيف يعالج الشر. لكن خطاباته الرنانة بدت الآن كأمر وأيضا كصلوات موجهة لمصير لا يرحم. إن الطبقة الهالكة، كالناس المرضى على نحو مهلك، لا تتعب من تكرار تفجعاتها والاستماع إلى العزاء. إن خطابات هتلر جميعها منغمة على درجة النغم هذا. العاطفة الفارغة، وغياب التفكير المنظم، والجهل و النصوصية المبهرجة –جميع تلك النواقص أصبحت زوائد. لقد زودته بإمكانية توحيد كل أنواع السخط حول جعبة المتسول للاشتراكية الوطنية، وقيادة الجماهير في الاتجاه الذي دفعت به إليه. كانت محفوظة في ذهن المحرض ارتجالاته الشخصية الباكرة التي لاقت استحسانا. وكانت أفكاره السياسية ثمار أصواته الخطابية. هكذا تم اختيار الشعارات، وهكذا تكرس البرنامج، وهكذا اتخذ «القائد» شكله من المادة الخام. لقد تفاعل موسوليني، منذ البداية، مع المواد الاجتماعية بوعي أكثر مما فعل هتلر الذي اقترب أكثر إلى التأمل البوليسي اللاعقلاني للأمير كليمتز فون ميترنيش مما إلى الجبر السياسي لماكيافيلي. فموسوليني أوضح ذهنا وأكثر شكا. ويمكن القول أن الملحد الروماني كان يستعمل الدين فقط كما البوليس والمحاكم، بينما زميله في برلين يؤمن فعلا بنجاعة كنيسة روما. وخلال الزمن الذي اعتبر فيه دكتاتور إيطاليا المستقبلي أن ماركس «معلمنا المشترك الخالد»، دافع، ليس بسوء مهارة، عن النظرية التي ترى في حياة المجتمع المعاصر قبل كل شيء عملا تفاعليا لطبقتين، البرجوازية و البروليتاريا. صحيح أن موسوليني كتب عام 1914 أن هناك شرائح وسطية عديدة بينهما تشكل على ما يبدو «نسيجا متشابكا لجماعة بشرية»: لكن خلال «فترات الأزمة تنجذب الطبقات الوسيطة، وذلك حسب مصالحها وأفكارها، نحو إحدى هاتين الطبقتين الأساسيتين». إنه لتعميم مهم جدا‍! فبالضبط، كما يجهزنا الطب العلمي ليس فقط بإمكانية علاج المريض بل كذلك إرسال المعافى ليلتحق بأجداده في أقرب وقت، كذلك الأمر بالنسبة للتحليل العلمي للعلاقات الطبقية، الذي وضعه كاتبه لتعبئة البروليتاريا، ساعد موسوليني، بعد انتقاله إلى المعسكر المضاد، على تعبئة الطبقات الوسطى ضد البروليتاريا. لقد أنجز هتلر العمل ذاته، مترجما المنهج الفاشي إلى لغة التأمل المبهم الألماني. إن المشاعل التي يحرق بها الأدب الماركسي غير الورع، تنير بتوهج الطبيعة الطبقية للاشتراكية الوطنية. فعندما كان يعمل النازيون كحزب وليس كسلطة دولة، لم يستطيعوا أن يجدوا طريقا إلى الطبقة العاملة. ومن جهة أخرى، فإن البرجوازية الكبيرة، حتى أولئك الذين دعموا هتلر بالمال، لا يعتبرون أن حزبه هو حزبهم. لقد اتكأ «الانبعاث» الوطني بشكل كامل على الطبقات الوسيطة، الجزء الأكثر تخلفا من الأمة، و الصابورة (ثقل يستخدم في السفينة لحفظ توازنها) الثقيلة للتاريخ. وهنا كمن الفن السياسي في صهر البرجوازية الصغيرة في بوتقة واحدة من خلال معاداتها الصلبة للبروليتاريا. ما الذي يجب عمله من أجل تحسين الأمور؟ قبل كل شيء خنق هؤلاء الذين هم في الأسفل مباشرة. وحيال عجز البرجوازية الصغيرة أمام الرأسمال الكبير، تأمل في المستقبل إعادة كرامتها الاجتماعية عبر سحق البروليتاريا. ويطلق النازيون بشكل اغتصابي على انقلابهم لقب الثورة. لكن في الواقع، تترك الفاشية، في ألمانيا كما في إيطاليا، النظام الاجتماعي دون أن يمس. إن انقلاب هتلر، إذا ما أخذ على حدة، لا يستحق حتى تسمية مضاد للثورة. غير أننا لا يمكن أن ننظر إليه كحدث معزول، فهو نتيجة دورة من الصدمات بدأت في ألمانيا سنة 1918. فثورة نوفمبر/(تشرين الثاني) التي أعطت السلطة لسوفياتات العمال والفلاحين، كانت بروليتارية في اتجاهاتها الأساسية.. غير أن الحزب الذي وقف على رأس البروليتاريا قد أعاد السلطة للبورجوازية. بهذا المعنى تكون الاشتراكية الديموقراطية قد افتتحت حقبة الثورة المضادة، قبل أن تستطيع الثورة إتمام عملها. ومع ذلك، فخلال الوقت الذي اعتمدت فيه البرجوازية على الاشتراكية الديموقراطية، وبالتالي على العمال، احتفظ النظام بعناصر مساومة. إلاّ أن الظروف العالمية والداخلية للرأسمال الألماني لم تترك مجالا لمزيد من التنازلات. لقد أنقدت الاشتراكية الديموقراطية البورجوازية من الثورة البروليتارية، ومن ثم جاء دور الفاشية لتحرر البرجوازية من الاشتراكية الديموقراطية. إن انقلاب هتلر هو فقط الحلقة الأخيرة من سلسلة الإنتقالات المضادة للثورة. إن البرجوازي الصغير معاد لفكرة التطور، لأن التطور يسير بشكل ثابت ضده، فالتقدم لم يقدم له شيئا سوى ديون لا تنتهي. والاشتراكية الوطنية لا ترفض فقط الماركسية بل و الداروينية أيضا. و يلعن النازيون المادية لأن انتصارات التكنولوجيا على الطبيعة عنت ضمنا انتصار الرأسمال الكبير على الرأسمال الصغير. ويقوم زعماء الحركة بتصفية «المذهب العقلي» ليس لأنهم يمتلكون فكر درجة ثانية وثالثة بقدر ما لأن دورهم التاريخي لا يسمح لهم بالوصول بأي فكرة إلى نتيجتها. فالبرجوازي الصغير سيلجأ في الملاذ الأخير إلى أساطير تقف فوق المادة وفوق التاريخ، محمية من المنافسة والتضخم والأزمة ومنصة المزاد العلني. إنه في مقابل التطور والفكر الاقتصادي والعقلانية –للقرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين- تقبع في ذهنه المثالية الوطنية كمصدر للبداية البطولية. إن أمة هتلر هي الظل الأسطوري للبرجوازية الصغيرة نفسها، هذيانها المحزن للعصر الألفي السعيد على الأرض. و لكيما تعلو الأمة على التاريخ، يعطى لها دعم العرق، وينظر إلى التاريخ كانبثاق للعرق، وتفسر صفات العرق دون علاقتها بالظروف الاجتماعية المتغيرة. إن الاشتراكية الوطنية، برفضها «الفكر الاقتصادي» كأساس، تنحدر درجة إلى الوراء –ومن المادية الاقتصادية تلجأ إلى المادية الحيوانية. إن نظرية العرق، المبتدعة خاصة، كما بيدو، لحساب الأفراد ذوي الثقافة الذاتية المدعين الذين يسعون لحل كوني لجميع أسرار الحياة، تبدو كئيبة بشكل خاص على ضوء تاريخ الأفكار. فمن أجل خلق دين الدم الألماني الأصيل، كان هتلر مضطرا لأن يستعير بطريقة غير مباشرة الأفكار العنصرية من الفرنسي الكونت (جوزيف أ.) غوبينو، وهو ديبلوماسي وهاوي أدب. ولقد وجد هتلر المنهجية السياسية جاهزة في إيطاليا. إن موسوليني قد استخدم وبشكل واسع النظرية الماركسية لصراع الطبقات. فالماركسية نفسها هي أيضا قد استخدمت الفلسفة الألمانية، والتاريخ الفرنسي، والاقتصاد الانكليزي. فإذا ما بحثنا في أصل الأفكار، فحتى تلك الأفكار الأكثر رجعية وتشوشا لن تترك أثرا للعرقية واقفا على قدميه. إن الفلسفة شديدة الهزال للاشتراكية الوطنية لم تعق بالطبع دخول العلوم الأكاديمية ممرات هتلر السالكة مشرعة الذراعين ما أن تحقق انتصاره بشكل كاف. فبالنسبة لأكثرية جماعة المهنيين كانت سنوات نظام فايمار فترات شغب وذعر. إن المؤرخين والاقتصاديين والقضاة والفلاسفة قد ضاعوا في عملية التكهن حول أي من معايير الحقيقة المتنافسة كان واقعيا، أي، مَن من المعسكرات سيكون سيد الموقف في المطاف الأخير. ولقد أزالت الدكتاتورية الفاشية شكوك الفاوستيين وتردد الهملتيين في منابر الجامعة. إن المعرفة، البازغة من شفق النسبية البركانية، تدخل مرة أخرى إلى مملكة الأمور المطلقة. هكذا اضطر انشتين لأن يثبت خيمته خارج حدود ألمانيا. ونجد على صعيد السياسة، أن العرقية تشكيلة مبتذلة طنانة للشوفينية، متحدة مع علم فراسة الدماغ. فكما سعت فئة النبلاء المحطمة لإيجاد العزاء في نبالة دمها، هكذا أيضا أسكرت البرجوازية الصغيرة المفقرة نفسها بحكايات الجن المتعلقة بالتفوق الخاص لعرقها. والجدير بالانتباه هنا حقيقة أن زعماء الاشتراكية الوطنية ليسوا من أصل ألماني بل كانوا متطفلين نمساويين، كهتلر بالذات، ومن مقاطعات البلطيق التي كانت تابعة لإمبراطورية القيصر، مثل الفرد روزنبرغ، ومن البلدان المستعمرة ، كرودولف هيس [21] مناوب هتلر الحالي لرئاسة الحزب. كان مطلوبا إذا مدرسة همجية وطنية تلعب دور مهيج على امتداد الحدود الثقافية وذلك من أجل غرس أفكار في «الزعماء» كتلك التي لاقت لها فيما بعد صدى في قلوب أكثر الطبقات همجية في ألمانيا. ليس الفرد والطبقة –الليبرالية والماركسية- إلاّ شرين. أما الأمة- فصالحة. لكن على عتبة الملكية الخاصة تنقلب هذه الفلسفة رأسا على عقب. فالخلاص يكمن فقط في الامتلاك الخاص الشخصي، أمّا فكرة الملكية الوطنية فهي جرثومة البلشفية. إن البرجوازي الصغير، بتعظيمه للأمة، لا يريد أن يقدم لها شيئا. بل على العكس، ينتظر من الأمة أن تمنحه الملكية وتحميه من العامل والوكيل. ولسوء الحظ فإن الرايخ الثالث لن يمنح للبرجوازي الصغير إلاّ مزيدا من الضرائب. وفي حقل الاقتصاد الحديث، العالمي في ارتباطاته والغفل في طرائقه، يظهر مبدأ العرق كمتطفل من مقابر القرون الوسطى. ويعلن النازيون أن على صفاء العرق، الذي يجب المصادقة عليه في مملكة الروح بجواز سفر، أن يثبت جدارته وفعاليته في حقل الاقتصاد بشكل أساسي. وهذا يعني في ظل الشروط المعاصرة قدرة تنافسية. أن العرقية تعود من الباب الخلفي إلى الاقتصادية الليبرالية، لكن من دون حريات سياسية. عمليا تبرز الوطنية في الاقتصاد كهيجان عقيم لكن متوحش معاد للسامية. يقوم النازيون بتجريد الرأسمال الربوي أو المصرفي من النظام الاقتصادي الحديث لأنه من روح الشر، وكما هو معلوم تماما، فإنه بالضبط في هذا الحقل تحتل البرجوازية اليهودية مركزا هاما. وبسجودها بشكل كامل أمام الرأسمالية ككل، تعلن البرجوازية الصغيرة الحرب على روح الربح الشريرة في زي اليهودي البولوني في القفطان الطويل الذي لا يملك عادة حتى مليما في جيبه. إن المذبحة المنظمة تصبح أدلة خارقة على التفوق العنصري. إن البرنامج الذي أتت به الاشتراكية الوطنية إلى السلطة يذكرنا كثيرا، وللأسف –بمتجر يهودي في مقاطعة نائية! فماذا يمكن أن تلاقيه هنا – رخيص السعر، و متدني النوعيةّ! ذكريات الأيام «السعيدة» للمنافسة الحرة، وتقاليد ضبابية لاستقرار المجتمع الطبقي، وآمال بإعادة خلق الإمبراطورية الاستعمارية، وأحلام باقتصاد مغلق، وعبارات حول العودة من القانون الروماني إلى الجرماني، والتماس بتأجيل الديون الأمريكية، وعدائية حسود لعدم المساواة في شخص مالك سيارة، وخوف حيواني من المساواة بشخص العامل ذي القلنسوة والذي بلا ياقة، والوطنية المسعورة وخوف من أصحاب الديون العالميين. حثالة الفكر السياسي العالمي ذهبت لتملأ الكنز الروحي المسيانية [22] الجرمانية الجديدة. لقد كشفت الفاشية أعماق المجتمع للسياسة. فاليوم يعيش إلى جانب القرن العشرين القرن العاشر أو الثالث عشر، ليس فقط في منازل الفلاحين لكن أيضا في مدينة ناطحات السحاب. مئات الملايين من الناس تستعمل الكهرباء وما تزال تؤمن بالقوة السحرية للإشارات والتعاويذ. كم يمتلك هؤلاء من الاحتياطات التي لا تنفد من الظلم والجهل والوحشية! لقد رفع اليأس تلك الأمور على أقدامها، وأعطتها الفاشية الراية. إن كل الأشياء التي كان يجب أن تستأصل من البنى العضوية للقومية في مسار التطور غير المتوقف للمجتمع تصعد ألان تصعد بتدفق من الحنجرة، إن المجتمع الرأسمالي يتقيأ البربرية التي لم يهضمها. هذه هي فيزيولوجية الاشتراكية الوطنية. والفاشية الألمانية كالإيطالية صعدت إلى السلطة على ظهر البورجوازية الصغيرة التي حولتها إلى كبش ضد الطبقة العاملة ومؤسسات الديموقراطية. لكن الفاشية في السلطة ليست قط حكم البورجوازية الصغيرة. إنها على العكس أكثر الديكتاتوريات قساوة للرأسمال الإحتكاري. وموسوليني على حق: فالطبقات الوسيطة عاجزة عن امتلاك سياسات مستقلة وهي تدعى خلال فترات الأزمات الكبيرة لتخفض إلى مستوى السخف سياسات إحدى الطبقتين الأساسيتين. وقد نجحت الفاشية في وضعها في خدمة الرأسمال. أمّا هكذا شعارات، من مثل سيطرة الدولة على الاحتكارات وإزالة الأرباح غير الشرعية، فقد قذفت إلى الخارج مباشرة بعد استلام الفاشية السلطة وأعطت خصوصية «الأراضي» الألمانية الناتجة عن خصوصية البورجوازية الصغيرة، أعطت مكانها لمركزية رأسمالية بوليسية. إن أي انتصار في السياسات الخارجية والداخلية للاشتراكية الوطنية يعني بشكل محتوم أن الرأسمال الكبير يقوم بتحطيم الملكية الصغيرة. إن برنامج أوهام البورجوازية الصغيرة لا ينبذ، إنه يصبح بكل بساطة منفصلا عن الواقع، يذوب في أعمال طقوسية. يتحول توحيد جميع الطبقات إلى رمز للعمل الإجباري ولمصادرة العطلة العمالية لأول ماي/(أيار) «لصالح الشعب». وتبرز المحافظة على الخط الجرماني كمقابل للخط اللاتيني، كانتقام رمزي لنير السوق العالمية. أمّا الاعتماد على أصحاب البنوك العالميين بمن فيهم اليهود فلم يخفف قيد أنملة، كما الحال في تحضير ذبح الحيوانات حب الطقس الثلمودي. فإذا كانت الطريق إلى جهنم معبدة بالنوايا الطيبة، فممرات الرايخ الثالث معبدة بالرموز. إن الاشتراكية الوطنية بإخضاعها برنامج أوهام البورجوازية الصغيرة إلى حالة بيروقراطية. تضع نفسها فوق الأمة كأبشع أشكال الإمبريالية. وتلك الآمال التي تضن بأن حكومة هتلر ستسقط غدا، إذا لم يكن اليوم ضحية عدم تجانسها الداخلي هي آمال خاطئة تماما. فالنازيون بحاجة لبرنامج لكي ما يستلموا السلطة، لكن السلطة لا تخدم هتلر من أجل هدف تحقيق البرنامج، إن مهامه يعينها الرأسمال الاحتكاري. فالتجمع الإجباري لجميع القوى والموارد الوطنية لمصلحة الإمبريالية –المهمة التاريخية الحقيقية للديكتاتورية الفاشية- يعني التحضير لحرب وهذا الأمر لا يتحمل أي مقاومة داخلية ويؤدي إلى مزيد من المركزة الميكانيكية للسلطة. فالفاشية لا يمكن إصلاحها أو صرفها. يمكن فقط إسقاطها. إن المسار السياسي للنظام يقود إلى خيار : حرب أو ثورة. وتقترب الذكرى السنوية الأولى للديكتاتورية النازية. لقد أتيح وقت كاف أمام جميع ميول النظام الفاشي لكيما تتخذ طابعا واضحا ومميزا وها قد ثم رسميا إدانة وتصفية الثورة «الاشتراكية» التي تتخيلها الجماهير البورجوازية الصغيرة كمكل ضروري للثورة الوطنية. ووجدت اخوة جميع الطبقات ذروتها في حقيقة أنه في يوم تعينه الحكومة بشكل خاص تخلى الذين يملكون عن مقبلاتهم وتحلياتهم للذين لا يملكون. ونتج النضال ضد البطالة عن قطع الصدقات الشبه التجويعية إلى النصف، والباقي إحصائيات متلاعب بها. إن الحكم المطلق المنظم هو ببساطة مرحلة جديدة من التفسخ الاقتصادي. وكلما كان النظام النازي أكثر عجزا في الاقتصاد، كلما كان مضطرا أكثر لتحويل جهوده إلى حقل السياسة الخارجية. وهي جهود توازي الحركة الداخلية للرأسمالية الألمانية في هجوميتها المتصاعدة. إن التحول المفاجئ للقادة النازيين نحو التصريحات حول السلام لا يخدع إلاّ السذج تماما. فمادا تبقى لهتلر من وسائل في متناوله لرمي مسؤولية الكوارث المحلية على أعداء خارجيين، و لمراكمة القوة الانفجارية للإمبريالية، تحت ضغط الديكتاتورية؟. إن هذا الجزء من البرنامج المصمم بشكل علني حتى قبل استلام النازيين السلطة، يتم إنجازه الآن بمنطق حديدي أمام أعين العالم أجمع. إن تاريخ الكارثة الأوروبية الجديدة سيحدده فقط الوقت الضروري لتسليح ألمانيا وهي ليست مسألة أشهر ، ولكنها أيضا ليست مسألة عقود. وستمر فقط بضع سنوات قبل أن يتم إقحام أوروبا من جديد في الحرب، إلاّ إذا أدركت القوى الداخلية لألمانيا هتلر في الوقت المناسب. .