فلسطين يجب أن توظِّف لا أن توظَّف

حجم الخط
ليس بالأمر الجديد أن يدفع الفلسطينيون ثمنَ صراعات عربية، وما أكثرها، سواء بين نظام عربي ومعارضيه، أو بين قُطْرٍ عربي وآخر، أو بين محور عربي وآخر. ففي أواسط سبعينيات القرن الماضي، زج السادات الفلسطينيين في صراعه مع معارضيه، الناصريين واليساريين، وقرر طرد الطلبة الفلسطينيين من الجامعات المصرية، ليتبين لاحقاً، (بعد شهور) أن قرار الطرد هذا كان سياسياً بامتياز، وأن ذريعته لم تكن سوى غطاء لمقدمات ارتداد نظام السادات على "الناصرية" وخطها الوطني والقومي الداعم لقضايا الأمة، وقضية فلسطين بالذات، وهو ما اتضحت معالمه في زيارة السادات غير الميمونة لإسرائيل عام 1977، تمهيداً لصفقة "كامب ديفيد" عام 1979 على حساب القضية الفلسطينية، ولإدخال مصر، وبالتالي العرب عموماً، في مرحلة من التبعية للولايات المتحدة، والخضوع لربيبتها إسرائيل. وهي التبعية التي ما زال العرب، شعوباً وحقوقاً وقضايا، يعانون، ويدفعون ثمن، الوقوع في إسارها، بل، وصار التخلص منها مستحيلاً من دون الثورة عليها، بكل ما ينطوي عليه ذلك من أثمان باهظة، ها هي تتبدى بأقسى صورها فيما تشهده مصر بالذات من صراع حاد ومكلف بين مَن يريد التخلص منها، (التبعية)، وبين من يريد الحفاظ عليها، بل، وتعميق أواصرها باسم ثورة ركب موجتها، واختطف، (مؤقتا ودون استقرار)، سلطتها، بمباركة الولايات المتحدة ودعمها. وفي لبنان دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً، بل هو الأكبر، بالمعنيين البشري والسياسي، جراء الحرب الأهلية، (1975-1990)، حيث أدخلتهم "الجبهة اللبنانية"، (الكتائب والأحرار)، عنوة، وعن سابق تخطيط، في صراعها السياسي مع الحركة الوطنية اللبنانية المطالبة بالإصلاح الديمقراطي للنظام الطائفي، حيث أقدمت على ارتكاب "مجزرة عين الرمانة" ضد الفلسطينيين، بغرض التغطية على الجوهر السياسي للصراع اللبناني الداخلي، وتصويره كأنه صراع بين مَن يحتضن "الغرباء"، (الفلسطينيين)، على حساب لبنان ومصالحه، وبين مَن يريد تخليصه من "سيطرتهم" عليه. وهي الكذبة التي تبددت، وتعرت، إلى غير رجعة، حين دعمت "الجبهة اللبنانية"، علناً وصراحة، الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، حيث سهَّل تحالفها المُعلن مع إسرائيل حصار بيروت واحتلالها، وإخراج البندقية الفلسطينية من لبنان، بل، ونفذت بيدها، برعاية شارون وحمايته، مجزرة صبرا وشاتيلا الرهيبة، لينفتح الباب لاحقاً، على تعريض المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى مجازر أخرى، جاءت جميعها، بمعزل عن مبرراتها الواهية، تعبيراً عما يربط مرتكبيها بالولايات المتحدة من علاقات، تدفعه، طوعاً حيناً، وإلزاماً حيناً، نحو الخضوع لإسرائيل، ونحو المساهمة في مخططاتها لتصفية القضية الفلسطينية، كمخططات تدعمها، بل، وتشارك فيها، الولايات المتحدة، وكل مَن يدور في فلكها، ويتبع لها، عربيا وإقليمياً ودولياً. وفي الكويت كان الفلسطينيون أول، وأكثر، من تم التعرض له، بالانتقام والطرد والترحيل، بدعوى مساندتهم النظام العراقي في اجتياحه للكويت في العام 1990، دون أن ننسى ما فرضه معظم دول الخليج على الثورة الفلسطينية من حصار مالي لم تنته تداعياته، ولم يتخلص الفلسطينيون، الشعب والقضية، من تبعاته، حتى اليوم، وإلا لكان بلا معنى ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم من أزمة مالية غير مسبوقة، آخذة بالتفاقم، ليس فقط بسبب وقْف، بل سرقة، إسرائيل، لمستحقاته المالية، بل، أيضاً بسبب رضوخ الأنظمة العربية لإرادة الولايات المتحدة، وعدم تجرئها على الوفاء بما وعدت به من "شبكة أمان" مالية للخزينة الفلسطينية، ما يؤكد أن الحصار المالي الخليجي على الفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي، لم يكن، "أو لم يكن فقط)، بسبب موقفهم السياسي من اجتياح العراق للكويت. وفي العراق في مرحلة ما بعد احتلاله في العام 2003، لم يتوانَ حكامه الجدد القادمون على ظهر الدبابات الأمريكية، عن التنكيل بالفلسطينيين وطرد أعداد كبيرة منهم، بدعوى وقوفهم إلى جانب نظام صدام المُطاح أمريكياً بذريعة التخلص من استبداده و"أسلحة دمار شامل" ثبت عدم وجودها، بل، وتبين أنها لم تكن سوى كذبة تخفي مصلحة أمريكية إسرائيلية مشتركة في تدمير العراق الدولة والجيش، والسيطرة على مقدراته، وتحويله إلى دولة فاشلة، ومرتعٍ للصراع المذهبي والطائفي والجهوي، وإلى مفرخة أخرى، بعد أفغانستان، لتوالد تنظيم "القاعدة"، وكل ما تناسل من رحم فكره الجاهل والمتطرف من تنظيمات إرهابية، صار متعذراً تمييز اختلاف ألوانها، أو ملاحقة التنامي البكتيري لأجنحتها، أو وقف تمدد ضرباتها إلى سوريا واليمن وسيناء وغزة وليبيا وتونس والمغرب والجزائر ونيجيريا وشمال مالي. واليوم، ليس ثمة من عجب في أن يتكرر السيناريو ذاته في سوريا، حيث يجري الزج باللاجئين الفلسطينيين ومخيماتهم في أتون الصراع الجهنمي الجاري، منذ عامين تقريباً، بين النظام وقوى المعارضة المسلحة التي يلتم فيها "الشامي على المغربي"، وتدعمها، بالمال والسلاح والسياسة، دول وقوى عربية وإقليمية ودولية، تقع في مقدمتها، وتقف على رأسها، وتنسق مواقفها، الولايات المتحدة بعد أن تم غض النظر عن آثام قهرها للشعوب وتدمير كياناتها الوطنية وانتهاك سيادتها ونشر الفوضى والفتن في نسيجها المجتمعي، بل، وصارت، بقدرة قادر، حاضناً أول لحركات التحرر، ومدافعاً، لا يضاهى، عن حقوق الإنسان، ومُخَلِّصاً، لا يشق له غبار، للشعوب المقهورة، (باستثناء الشعب الفلسطيني طبعاً)، من نير الاستبداد وفقدان الحرية والديمقراطية السياسية، بل، والاجتماعية، أيضاً، وكأن الولايات المتحدة هذه ليست هي الموطن الأصلي، لنشوء، وتعاظم، وانتشار، سياسة "الليبرالية الجديدة" منذ اعتمدها ريغان، بالتوافق مع تاتشر، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، بكل ما نجم عنها من أزمات مالية، وبالتالي اقتصادية، عالمية، كان آخرها تلك الأزمة التي ما انفكت شعوب العالم تعيش تداعياتها منذ العام 2008، مع ما ترتب على هذه الأزمات الدورية من ويلات وحروب وتدمير، فضلاً عن تعظيم معدلات الفقر والجوع والبطالة والجهل والأمية وانعدام السكن والماء الصالحة للشرب و...الخ قصارى القول: بمعزل عن تنوع ذرائع، وأطراف، الزج بالفلسطينيين في أتون الصراعات العربية الداخلية، فقد ثبت أن كل توريط لهم في هذه الصراعات كان مقدمة لهجوم لاحق على قضيتهم، ومؤشراً على تبعية مَن قام بهذا التوريط للولايات المتحدة، ورضوخه لإرادة سياستها، الداعمة، على بياض، وعلى طول الخط، وبلا حدود، لإسرائيل، ومخططاتها الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، وحرفِ بوصلة النضال الوطني الفلسطيني، وتوظيفه في حسابات مصالح أطراف عربية وإقليمية ودولية معنية بضرب قاعدة فلسطينية ذهبية، فحواها: القضية الفلسطينية يجب أن توظِّف لا أن توظَّف، ما يفرض على كل سياسي فلسطيني، فرداً كان أو تنظيماً أو جماعة، عدم المساهمة، بوعي أو بجهالة، في تسهيل طريق توريط الفلسطينيين في الصراعات العربية الداخلية ورمالها المتحركة التي لن تنتهي، وآخرها، وربما أخطرها، محاولة توريطهم في الصراع الجهنمي الدائر في سوريا وعليها.