قبل أن تبدأ أيام العام المنصرم بالتساقط كأوراق الشجر، عانقت الأرض جسداً كان من أعظم عشاق فلسطين، رجلاً رسم بكل مبادئه طريقاً نحو فلسطين ، شيخ الثورة ، ونور الشمعة في كهف الفداء .. أبو ماهر اليماني ، ذاك النسر المغادر أرض الوطن بعد النكبة ساكنا سماء لبنان ، ليواصل الكفاح من غير كلل أو ملل ، وليحقن شرايين التاريخ بحروف من العشق الوطني ونظافة الثوابت وأصالة الموقف ، فعرف برجل الكلمة في زمن التنازل ، ورصاصة المقاومة في بندقية ثائر .
كان من أوائل المدافعين عن حقوق الشعب ، رسم الحلم الفلسطيني بدمه ، وزرع شجرة العودة في نفوس أبنائه ، فرحل في الصباح مع خيوط الشمس ماشياً إلى فلسطين ، تلك الفتاة الجميلة التي عشقها طوال حياته ، جنبا إلى جنب مع رفيق دربه الراحل حكيم الثورة جورج حبش ، وقمر الشهداء أبو على مصطفى ، وأسطورة التحدي خلف القضبان سعدات ، وقلم غسان كنفاني ، ذاهبا إلى مدرسة الثورة ، تلك المدرسة التي تركنا بها ونحن في الصفوف الأولى ، نتعلم أبجدية المقاومة ، وعنفوان المبادئ ، ونظافة اليد وعشق الثورة .
نعم رحل .. ونحن في منتصف الطريق ، تركنا نلملم بقايا الوطن المسلوب ، ونحاول النهوض بهذا الوطن الجريح المثقل بآهات الغدر ، وطعنات الخيانة ، فيا من كنت عصب الحياة ، وملح الأرض ، كن على ثقة بأن من حقن التاريخ بالسم لن يدوم ، وأن فلسطين ستعود ، وستدفن في سحماتا التي بدأت المشوار منها ، وأن كتابك "تجربتي مع الحياة" سيكون منهاجا في صفوف الوطنيين يدرسون به الأطفال ليتعلموا حب الوطن ، وأصالة المبادئ ، وشرف التضحية ونقاء الفداء .
شيخنا الراحل ، أعتذر منك .. لأن الشعب لم ينكس العلم برحيلك ، لأن ثوار فلسطين لم ينصفوك كما يجب أن تنصف ، لأن جبهتك لم تخرج بموقف يثمن به رحيلك ، كنت أبحث بالمحطات واحدة تلو الأخرى في الذكرى الأولى لرحيلك ، ولكن بلا جدوى أي كمن يحرث بالماء ، لم أرَ سوى المدبلج التركي و برامج الأطفال ، لمن نوجه التقصير ؟؟ لجبهتك !؟ أم لمن لديهم نفس جراحك !؟ قبل أن تكون رفيقا .. أنت ابن الوطن وردة النرجس في ساحات المسجد الأقصى ، عند رحيلك لا ننتظر جبهتك لترثيك ، بل يجب أن يخرج الشيخ والشجر والحجر مفزعين لرحيلك ، يجب أن يتوقف الزمن ويعود إلى قبل ست وثمانين عام يوم مولدك ليبدأ التاريخ من هناك .
رفيقنا أبو ماهر يبدو أن مدرستك لم تعمم بعد في نفوس الثوار كما يجب ، ولكن كن مطمئن الروح بأن فلسطين باقية لا محال ، وأن المختبئين تحت لباس الثورة سيداسون بالنعال ، والحرية أتيه مهما كان الثمن ، ارحل وأنت مرتاح ، فالوطن سيتوحد أن طال الزمان أو قصر.
فقط هذه حروف منثورة متألمة لرحيلك نذكر بها القليل مما لديك .