ألنَّكبَة في موت صُنْدُوق!

حجم الخط
لَمْ تُسْعِفنَا بسُهولة مُخَيِّلَتَنَا كي ِنَرسُمَ صُورَةَ النَّكْبَةِ ،طَبعَة أصليّة، عن صُورَةِ الصُّنْدُوقِ الْمُخِيفِ الَّذِي أَحْضَرَتْهُ جُدْتِي مَعَهَا إلى الْمُخَيَّمَ، وأُمّي تفرد الذكريات في ندوة نسائية بالمناسبة وتترك لي بقيّة حوار مقطوع في مكان آخر عن شُح المنَح الدوليّة لإعادة إعمار مخيّم نهر آلبارد. منمنماتهُ عَجَّت بِرَائِحَةِ الرَّحِيلِ، وَآحتضنتْ طَبَقَةَ سَمِيكَةِ مِنْ غُبارِ الزَّمَنِ. ذاتَ يوم كَانَ هَذَا الصُّنْدُوقُ أَهُمَّ تُحْفَةٍ تَتَبَاهَى بها الْعَرُوسِ بِمَا تحتويهِ من ممتلكاتٍ نادرة، هيَ كِسْوَةِ عُرْسِهَا من الْمَلاَبِسِ وَالْحَلِّيِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي لَا يحمي سِرَّهَا غَيْرُهُ . صُنْدُوقُ عُرْسٍ عَتِيقٍ، مُخْمَلِيِّ آلغِطَاءِ ذي لَمْسَةٍ فَنِيَّةٍ طاغية على جلسَتِهِ آلعَبِقَةِ برائِحةِ آلبِلاد! صَنَعَتْهُ يدُ فنّانٍ بِحِرفيَّةٍ عالِيَة مِنْ خَشَبِ آلبلّوطِ آلخالِص، وقد زَركَشَتْهُ الْأَلْوَانِ الزّاهِيَةَ. خَبَرُنَا مِنْهَا أنَّ جَدّي أحْضَرَهُ خِصِّيصًا لِجدَّتِي مِنْ مَدِينَةِ عَكّا من ثَمَنِ غَلَّةِ مَوْسِم الْقَمْحِ، وَلِأَنَّ فِيه أَدُرَّاجٌ مِنْ شَوْقٍ خاصٍّ إلى لَحْظَةٍ جَاءَتْ مِنْ هُنَاكَ! لِذَا حَمَلَتْهُ تَشَبُّثًا بِالَّذِي كَانَ. غَادَرَتِ آلْوَطَنَ وَآلصُّنْدُوقُ عَلَى كَتِفِهَا، تلُفُّهُ بِحُزنِهَا، وَتُداري عَليهِ من ذِئابِ آللّيلِ وآلبريَّةِ كَوَطَنٍ صَغِيرْ. ثَقِيلٌ كَالْنَّكْبَةِ، عُميقُ آلصّمتِ كفَجِيعَةِ أُنَاسِها. ذليلٌ كَآلهَزيمة، وحيدٌ كَظِلالِ فَرائِسِهَا، تقُودُ غَنائِمَهُ آلثَّمينةِ دُرُوبُ الْغُرْبَةِ الْمُتَعَرِّجَةِ . كَأَنَّهَا الْبَيْتُ وَالْبَيّارَةُ وَشَجَرَةُ الْخَرُّوبِ وَسَاحَةُ الْقَرْيَةِ وَمِعْصَرَةُ الزَّيْتِ وَالطَّابُونِ وَحَجَّارَةُ الْجَامِعِ، كُلُّهَا مُكَوَّمةٌ مثْلَ صُوَرٍ تِذكاريَّةٍ في قاعِ آلصُّندوق، يُطِلُّ كُلُّ غرضٍ منها على حادِثَةٍ أو رِوايَة. لا تريدُ أن تتذكّرَ زوايا آلبيتِ أكثرَ لئلّا تنهارَ، تَرَكتْهُ مُشْرَعًا بِأثَاثِهِ خَلْفَهَا. لِلْصُنْدُوقِ قُفْلٌ نَحَّاسِيٌ تدُسُّهُ في عُبِّهَا خَوفَ تَتُوهُ عنه، خَوْفَ يُغَافِلُهَا فُضوليٌّ ويَعْبَثُ بِه. مَعَهَا يظلُّ مِفْتَاحُ آلقُفلِ الصَّغِيرِ يغَنّي في عُبِّ قّلبِهَا، مَزْهُوًّا بأُسطورَةِ ِالْفَرَحِ َالْمُؤَجَّلِ. لا رَقمَ واضِحٌ لأَفرَاحِهِ، لكنَّهُ يبقى مُعلَّقاً بموعدٍ معَ عُرسٍ سيأتي! . وَرِثْنَا الْمِفْتَاحَ النُّحَاسِيَّ الَّذِي صَمَدُ أَكْثَرُ مِنْ عُنُقِ حامِلِهِ وَلَكِنَّه، ذاتَ غَيْمَةٍ أورقتْ طَحالِبُ آلقِدَم فيهِ، وأنهتْ صلاحيَّةَ نُحاسِهِ، وبَقيَ الْقُفْلُ يتيماً بدونِ قُفلِ تاريخِه. إلى وَقْتٍ قَريبٍ صمَدَ آلقُفلُ حتّى اِسْتَعَارَهُ أَحَدُ أحفَادِهَا لِإِحْكَامِ إِغلاقِ حَقِيبَةِ سَفَرِ، وهكَذا َأصبَحَ قُفلٌ مُتَجَوِّلٌ فِي فَضَاءاتِ الْقَارَّاتِ. أَمَّا الصُّنْدُوقُ فَقَدْ أُصيبَ مُبَكِّرًا بِدَاءِ آلْعَثِّ آلخَبِيثِ، وَمَعَ آلأيَّامِ أُكَلَتْهُ الرُّطوبَةُ فَسَقَطَ مَغشِيّاٍ عليهِ، مِنْ شِدَّةِ آلإهتراء . حُكِمَ عليهِ صدأً، لَكِنَّ الْحُلُمَ لَا يَصْدَأُ، وَلَا يَهترىءُ. يَتَفَوَّقُ عَلَى النَّكْبَةِ ذاتِها، غالباً، وَلَا يُطِيقُ مَوَاسِمَ الذُّكْرِيَاتِ أَبَدًا، ولَوْ جُنِّدتْ كَعِلاَجٍ مُزمِنٍ من ِمَرَضِ آلنِّسْيَانِ . تَهْزَأُ ِمِنّا آلذِّكْرَى إذا آستَحَالت إلى صُنْدُوقِ فُرْجَةٍ على هيئةِ صناديقِ آلعَجَب، وخيال آلظل! تَغِيبُ فِي محاجرِ النِّسْيَانِ كُلَّ الْعَامِ، وَتَسْتَفِيقُ كَيَوْمِ عَابِرٍ لليَقَظةِ بكلِّ أنواعِها، ومعهُ تستفيقُ مِهْرَجَانَاتِ الصَّيْفِ السَّنَوِيَّةَ، بكرنفالاتها آلمُدَوِّيَةَ . كَيْفَ يمكنُ إِحياءُ ذِكْرَى بحجمِ نكبة؟ وَالنَّكْبَةُ عَلَى مرِّ الْأسابيعِ وألَسَّنواتِ تصيرُ طُقُوسُهَا أَشْبَهَ بِحَفْلَةِ عُرْسٍ طويلَةِ آلأمد! تُرافِقُهَا بَشاشَةُ الْوُجُوهِ وَأَسَارِيرُ الْفَرَح، وجوهٌ راضيةٌ عَنْ آخِرِهَا بما تحقِّقُهُ على آلشّاشاتِ من جَوْلاتِ نَصر! فِي يَوْمِ الْحَشْرِ هذا، تَفِيضُ الْقَاعَاتُ آلْفَخْمَةُ بِالْحُشُودِ، وَتَتَصَدَّرَ أسماءُ آلقاماتِ حُجوزاتِ الْفَنَادِقَ الرَّاقِيَةَ لسموِّ آلمُناسبة؟ ذاتِ النُّجومِ آللّامعة! وآلإِختِيارُ رَهنَ ولاءِ آلجِهَةِ الْمُنَظَّمَةِ وَالْمُمَوِّلَةِ للوَطَنِ آلضّائعِ وآلشّعب! آلشّعبُ تاجُ آلمُناسَبَةِ، ألوَطَنُ نثرُها، وآلباقِي شعرٌ على هامِشِ هَزائمَ مؤجَّلة! بِرَكٌ تُعَدُّ بعد أن ينفضَّ آلحشدُ لأسماكِ زينةٍ نادرة تذكِّرُنا بعكّا ويافا، وبحرِهَا آلأحمرِ لفَرطِ ما بكَى آلوَردُ فِيهَا، وآنتَظَرْ. لقد آعتَادَتِ هذه آلمُناسَباتُ أكثَرَ ممّا تتخيَّلونَ على آلتّقوى بآسمِ آلنّافِخينَ في أبواقِ آلصّدى! وَنَحْنُ لَنَا بَحْرُ حُزْنٍ عَمِيقٍ كُلَّمَا آمتدَ فيهِ آلصّدى فزَّ وجهُ آلحُلُمِ، وَشِخْنَا في عتمَتِهِ حتّى آلوَجَعْ. هكذا يصيرُ بحرُنا أَقَلَّ مَوْجٍ وَصَخَبٍ وأكثَرَ هُدُوءٍ وَغَضِبٍ، أبعَدَ غُمُوضٍ وشَجنْ . لَا أُرِيدُ أَنَّ أُحَيِّيَ النَّكْبَةَ وَلَا يَوْمَهَا، أصبَحَ للنّكبةِ أيَّاماً عَتيقةً وَخِيامٍ جَدِيدَةٍ وَمُخَيَّمَاتٍ تُتَنَاسَلُ من عصرِ آلخياناتِ بلا عددْ! ، تُنْجِبُ أَبْنَاءَ وَأَخَوَاتٍ وَأَحْفادَ، وأبناءَ عُمُومةٍ كُثُر، لا يميّزون في حمّى آلتِقاطِ آلصّور من فيها أقربُ للنّكبَةِ آلقادِمَة! تتكاثَرُ أسماؤُها وحَلْقَاتُهَا تتّسِع فِي شَرِيطِ ذُكْرِيَاتِ وَكَائِنَاتِ. أَلِبُومُ صُوَرٍ شمسية بِالْأُسودِ وَالْأَبْيَضِ، دَائِماً بآلأبيضِ وآلأسوَد. فآلنَّكْبَةُ لَيْسَتْ مُلَوَّنَةً فِي مخيلتي أَبَدًا! كَآلصُّورَةِ الَّتِي عَثَرْتُ عَلَيهَا فِي صُنْدُوقِ آلكِسْوَةِ تَماماً. آنطبعت خَلفَ مُخَيِّلَتي بهذا آللّونِ آلبَهيجِ، ولَا ..لا أُريد أن أَلَوِّنَهَا بِغَيْرِ آللّونْ. أُريدُهَا أن تَتسحَّبَ خِلْسَةً عبرَ سِرْدَابٍ أَثِيرِيِ يُعِيدُ آلحَواسَّ كُلَّهَا إلى تَارِيخِ آلمُنْعَطفاتِ آلبشِعة. يَوْمَ تُوَاطَأَ الْقَتَلَةَ عَلى آغتيالِ آلحِكَايَةِ. كَتَبَتْ سِجِلَّاتُ آلأُمَمِ يَوْمِيَّاتِ الْحُرِّ وَغُمِرَت بينَ آلجُناةِ وآلشُّهودِ قِصَّةَ آلسَّطْوِ آلمسلَّحِ بخَيالِ آلأُسْطُورَةِ سيرَةُ آلانسانِ آلأوَّلِ آلَّذِي كان. ثَمَّةَ أَنظمةٌ تَتَبَارَى عَلَى قَائِمَةٍ ألألقاب آلمزَرَّرةِ بِلَمَعانِ شعبِ آلِإِقتِلاَعِ، وَصِفَاتِ آلإِسْتِثْنَاءِ. سَئمتُ من رياءِ آلإستثناءِ، وخنقتني رائِحَةُ آلكُنوزِ آلمذبوحةِ في قاعِ الصُّنْدُوقِ آلملفّعِ بذاكرةِ آلحُلُم. لا مِفْتَاحَ آليَوْمَ في عُبِّ أحد غيرَ عبِّ آلعُهر. ضِقْتُ ذرعا لأنّي لا أستَطيعُ أن أكُونَ في عُبِّ أحد كَمُفتاحِ جدّتي تماما. بِلونِهِ لَوْنِي، وَعلى شاكِلَةِ كَسْمِهِ شكلي. مِفتاحِي خيارٌ وحيد، أن أَخْلَعُ الْقُفْلَ، وأُشْرِعُ آلبابَ، وأقتُلُ آلمنفى، وأُحَيّي ذكرى آلوَطَن! * عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مسئولها في لبنان