من التحرير إلى الشرعية

حجم الخط
لا يجادل أحد اليوم في أن اتفاقات أوسلو بين قيادة منظمة التحرير وحكومة الكيان الصهيوني، تجاوزت في تأثيراتها طبيعة الحقل السياسي الفلسطيني، لتطال البنية المجتمعية برمّتها، وأدوار القوى والنخب الاجتماعية والطبقية والسياسية، والثقافة السائدة، وكذا، وما يهمنا في هذه المقالة، طبيعة الخطاب السياسي ذاته. الخطاب رؤية، ولأنه كذلك، فهو يتأثر حتماً بمصالح مَنْ يصوغه وبحقائق الصراع في لحظة محددة. لذلك لا يهبط الخطاب من السماء ولا ينبت كالفطر بل هو وليد لحظة معينة بتشابكاتها. البديهية السابقة تنسحب، على بديهية أخرى في الصراع الفلسطيني الصهيوني قوامها أن المشروع الصهيوني وبصفته الجوهرية مشروعاً استـيطانياً إحلالياً استعمارياً يتطلب خطاباً تحررياً فلسـطينياً قوامه تحرير الوطن وتفكيك، تدمير، إنهاء المشروع الصهيوني. هذا الشعار، وقد استدعى برنامجه، تحرير فلسطين وبناء الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية، لم يكن بحاجة للمثقفين والنخب والقيادات لصوغه وتعميمه، فقد صيغ شعبياً، وعلى الأقل في شقه الأول، تحرير فلسطين قبل أن يُصاغ فصائلياً، في الميثاق القومي أولاً والوطني ثانياً ومن ثم في برامـج الفصائـل المقاتلة. كان يمكن للثوار والمناضلين الفلسطينــيين والعرب في حينه أن يقاربوا بين شعارهم هذا وشعارات ثورات عدة في العالم، التي تحوّلت نماذج تحررية تُحتذى كالثورات الجزائرية والصينية والفيتنامية، فكلها كانت ثورات تحررية، اكتسب بعضها لاحقاً، الطابع الاشتراكي كما في فيتنام والصين؛ ثورات تروم تحرير الوطن وعبر الثورة المسلحة، ليست فقط لضمان إنهاء الاستعمار بل وأيضاً لضمان تفكيك بنى الاستعمار. تلك حالة، وعلى رأسها الحالة الجزائرية، كانت مثل البوصلة في تحليل فانون للمقاومة في الشرط الاستعماري ولتأكيده على تلك الثنائية القطعية: مجتمع المستعمِرين (بكسر الميم) ومجتمع المستعمَرين (بفتح الميم)، ومن دون تحطيم المجتمع الأول يصعب تصور الحياة الإنسانية للمجتمع الثاني، والتحطيم لن يتمّ، حسب فانون والتاريخ أيضاً، من دون السلاح حصراً والعنف عموماً. لم تكن الثورة الفلسطينية بفصائلها مختلفة المشارب، تجانب لا حقائق الصراع ولا تجربة الشعوب عندما كان خطابها يتحدد وفق الشعار/ البرنامج الواضح وضوح حقائق الصراع: تحرير فلسطين. ومن هذا الشعار/ المفصل تحدد الكثير من المفاصل في البرنامج السياسي والخطاب اليومي، من نوع رفض الاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني في فلسطين وتالياً دولته، ومن نوع عدم الوقوع في الرهانات البائسة على اختلافات جذرية، طبقية وسياسية وإثنية، تطبع الكيان الصهيوني، على الأقل في نظرته للعدو: الشعب الفلسطيني، وأخيراً من نوع اعتبار امتلاك عناصر القوة، وهنا الكفاح المسلح حصراً، هي المدخل لانتزاع اعتراف العالم باستخدام اللغة الأكثر مباشرةً ووضوحاً: العالم لا يفهم سوى لغة القوة! مسار التحول في الخطاب يخطئ من يعتقد أن التحول في الخطاب الوطني الفلسطيني وليد ما بعد أوسلو حصراً. إن كانت أوسلو، ومن ضمن الميكانيزمات التي خلقتها في الأدوار والتوجّهات والتغييرات على المواقع، قد عنت تغييراً جوهرياً، كما نعتقد، في الخطاب الوطني، غير أن هذا الخطاب قد بدأت تطاله التغييرات منذ ما قبل أوسلو بكثير. العلم الفلسطيني الأصلي يرفعه الحاج أمين الحسيني وإلى جواره عدد من وجهاء مدينة القدس. منذ اللحظة التي بدأت فيها حركة المقاومة تضع العربة (الدولة) قبل الحصان (التحرير) بدأ التلعثم، إن جاز التعبير في الخطاب الوطني! فمن (سلطة وطنية على أي جزء يجري تحريره) إلى (دولة مستقلة) مروراً (بدولة على حدود الخامس من حزيران) وصيغة (إنهاء الاحتلال) بما تعنيه الصيغة/ الشعار من تقزيم القضية الوطنية الفلسطينية زمنياً ما بعد العام 67، وجغرافياً في الضفة والقطاع، مع إضافة مبدأ «تبادل الأراضي» في الضفة ذاتها!! وصولاً (لدولتين لشعبين). كان هذا المسلسل التنازلي في الفكر السياسي قد احتضنته مصالح بيروقراطية تشكلت في قيادة ومؤسسات المنظمة، فتحوّل الثائر في أحيان كثيرة إلى «برجوازي مكتبي»، يعيش الامتيازات اليومية وتعشش قيم الاستهلاك والرفاهية في سلوكياته اليومية، فتتشكل مصالح على النقيض من قيم الثورة والتحرير؛ مصالح وجدت تعبيراتها في مظاهر عدة لعل أهمها فتح الطريق، عبر شخصيات فلسطينية، أمام اتصالات أميركية/ فلسطينية، وهي مظاهر لم يكن المال النفطي ببعيد عن تشكيلها وفق هواه. هنا يمكن للسوسيولوجيا أن تقول كلمتها حول التحولات في المواقع الطبقية والنخبوية لقيادة المنظمة، والتي كانت بمثابة معول الحراث لاتفاق أوسلو. كل هذا من دون نسيان دور رأس المال الفلسطيني في الخارج وتناغم مصالحه مع مصالح قيادة المنظمة، وعبر دور تنظيمي/ أمني من كادرات وقيادات الداخل في تشكل جديد لصيغة: مال/ سياسة/ أمن في تشكيل سلطة أوسلو. لذلك حق القول إن الوصول لاتفاق أوسلو بما عناه ذلك من تحولات على الخطاب الفلسطيني لم يكن وليد لحظة أوسلو. فمنذ العام 1974، عام البرنامج المرحلي كما بات معروفاً، بدأ شعار تحرير فلسطين بالتراجع رويــــــداً رويــــــداً في الخــــــطاب الفلسطيني ليحل مكانه خطاب الدولة. كل البرامج بقيــــــــت كما هي، ولكن الصيغ البرنامجية شيء والخطاب شيء آخــــــــر تماماً. ربما يتفاوت حجم التناقض بين فصيل وآخر، ولكـــن تلك، بالعموم، سمة عامة طبعت مسار الفكر السياسي الفلسطيني، نعني بها انتهاك الخطاب اليومي والممارسة اليومية للبرنامج السياسي. ومع هزيمة النموذج البيروقراطي للاشتراكية على النمط السوفييتي، انفلت الخطاب الليبرالي المعادي لمقولة التحرر الوطني من عقاله وبــــــــدا أن الــــــساحة كلها له الآن. ألم يتبجّح فوكوياما بأن الرأسمالية نهاية التاريــــــخ!! ألم يســــــارع يساريو وشيوعيو الأمس لتلاوة آيات الندم على العقل الضــــــــائع والجـــــهد الضائع والتاريخ الضائع. وخلقت أوسلو التربة الملائمة لإعادة صوغ الخطاب بوجهته الجديدة: الليبرالية الجديدة. مفردات وصياغات جديدة ولم يكن الفكر الليبرالي الجديد يحتاج إلا للتربة المخصبة التي وفرها أوسلو، وهذه التربة وفرتها تحديداً التحولات الاجتماعية والسياسية ما بعد أوسلو. على الأقل يمكن رصد تغير أساسي طال البنية الاجتماعية، وتحالف سياسي جديد ما بعد أوسلو، ولعبا دوراً هاماً في توفير التربة الخصبة لليبرالية الجديدة. تجسّد التغير في اتساع الطبقة الوسطى نتيجة ثلاثة عوامل أساسية: نشوء سلطة الحكم الإداري الذاتي بما تطلبته من امتصاص عشرات الآلاف من الكوادر الفتحاوية لخلق قاعدة اجتماعية عريضة للسلطة، ونشوء مئات المنظمات غير الحكومية، والتطور الهائل لقطاع الخدمات، وتحديداً شركات التأمين والاتصالات والبنوك. أضحى الفكر الليبرالي هو حاضنة تلك القطاعات، خاصة مع التحالف السياسي البارز بين الرأسمال الفلسطيني في الخارج، وقد عاد لممارسة دوره النهبي وبالتطبيع والتحالف مع الرأسمال الصهيوني، وبين قيادة المنظمة. وكان خليل نخلة قد أبان ذلك التحالف وأهميته في شيوع الفكر الليبرالي في كتابيه: وطن للبيع وأسطورة التنمية في فلسطين، وقد استند هذا التحالف لدور تنظيمي/ أمني لعبه الداخل الفلسطيني امتص ليس فقط عشرات المناضلين الفتحاويين في الأجـــــــهزة، بل وكان قاعدة لقيام السلطة الناشئة بدورها الأمني الوظيفي المحدد في الاتفاقات أصلاً. وليست قليلة تلك الدراسات السوسيولوجية التي عالجت هيمنة الفكر الليبرالي، سواء على مستوى خطاب المنظمات غير الحكومية أو خطاب الليبرالية الاقتصادية للسلطة أو حتى على مستوى الخطاب اليومي للقوى السياسية. يمكن ببساطة الوقوف على سلسلة من المفاهيم والمفردات الجديدة التي غزت هذا الخطاب منذ اليوم الذي أعلن فيه، بالواقع، في أوسلو، وعبر الاتفاقات والملاحق والرسائل المتبادلة، أن القضية الوطنية الفلسطينية لم تعد مسألة التحرر الوطني، تحرير الأرض، بل مسألة خلافات مؤجلة كأية خلافات بين جيران: الاستيطان والحدود والمياه واللاجئين... وهنا كان (للمفردة السياسية)، بما تتضمنه من مدلولات، دورها في التعبير عن التغيرات في الخطاب. فأضحى لفظ العدو الصهيوني أو الكيان الصهيوني مغيباً تماماً، واستبدل بالاحـــــــتلال وأحياناً كثيرة، في اللغة الدارجة في المؤسسات والوزارات الحكـــــــومية بالآخر، وكأنه آخر ثقافي مثلاً. وقس على ذلك: المناصرة بدلاً مـــــــــن التعبئة الشعبية، الناشط بدلاً من المقاوم، العلنية والوجاهية بدلاً من السرية، الفئات المهمشة بدلاً من الطبقات الشعبية، الحضور الإعلامي بديلاً للحضور الميداني المقاوم، الأشقاء العرب بدلاً من الرجعية العربية، الإدارة الأميركية بدلاً من الإمبريالية الأميركية، عقلية الراتب بدلاً من عقلية المتطوع، القطاعات بدلاً من الجماهير... ويمكن دونما عناء الوقوف على تلك المفردات والصياغات الليبرالية عند مراجعة برامج القوى السياسية، من يمينها حتى يسارها، في انتخابــــــــــات المجلس التشريعي للعام 2006. ويمكن للطرفة الواقعية التالية أن توضـــــــح حجم التشويه الذي يلحق بالوعي السياسي للجماهير كنتاج لتلك التعبئة الليبرالية الأنجوية الحقوقية (من NGO): كانــــــت الحاجة فاطمة قد تربت سياسياً في أجواء الحزب الشـــــــــيوعي الفلسطيني، ولاحقاً حزب الشعب، في القرية، بتأثير العائلة الشيوعية أباً عن جد. أثناء اجتياح الصهاينة للقرية قاموا باعتقال أحد الشبان فحاولت الحاجة فاطمة ببسالة تليق بإمرأة شيوعية أن تخلص المعتقل من أيدي الجنود، فما كان من الجنود إلا أن ألقوها أرضاً وبدأوا يدوسون جسدها بأحذيتهم وببساطيرهم وهي تصيح: أضرب زي ما بدك! بدنا مؤتمر دولي ودولة مستقلة! فما دامت المسألة الوطنية (خلافات) أو (قضايا مؤجلة) وفي أفضل الأحوال (دولة في نطاق حدود مختلف عليها) نتفاوض حولها مع الدولة الجارة، وما دام الرأس الممثل للشعب الفلسطيني أعلن أن لا خيار إلا المفاوضات وأن لا انتفاضات بعد اليــــــــوم ولا مقاومة مسلحة، فيجب أن نسوّق أنفسنا وفق منطق الليبرالية الجديدة الذي ينهض على قاعدة قانونية تستند للشرعـية الدولية والقانون الدولي، لذلك بات القاسم المشترك لكـــل تلاوين الخطاب الفلسطيني، السلطوي واليساري والحمساوي، هو تلك الأيقونة المسماة بالشرعية الدوليةـ فانمحى الفارق بين خطاب أية منظمة غير حكومية تتقن، إلى حد ما، خطاب الشرعية هذا لتستجلب التمويل، وبين الخطاب السياسي، سواء الفصائلي أو السلطوي. في أسوأ الأحوال يمكن للخطاب غير الحكومي أن يتلطّى بالخطاب القانوني والحقوقي هذا، أقول في أسوأ الأحوال، لأن المنظمات غير الحكومية أصلاً، بطبعتها ما بعد أوسلو، لا يمكنها التواجد أصلاً مـن دون هذا الخطاب، ولكن ما شأن الخطاب السياسي بالتماهي مع ذلـك، وقد تلـفّع بالعباءة ذاتها فغدا خطاب من يدعو للمقاومة المسلحة، برنامجياً، هو ذات خطاب مَنْ يعتبر قمة انجازاته بياناً مـــــــــــن برلمانــــــــــيين أوروبيين يدين «المعاملة غير اللائــــــــقة» للمعتقلين الفلسطينيين؟! إن إشكالية الاستناد للشرعية الدولية تكمن في مفاصل ثلاثة، أولهما عدم الاستناد أصلاً للمقاومة على الأرض؛ المقاومة بأشكالها كافة، وفي المقدمة منها المسلحة، والتـــــــــي تستطيع وحدها تقديم تفسير منصف للشرعية الدولية، وهي - أي المقاومة - تتمغط برعونة! وثانيهما، أن هذه الشرعية ذاتها، وإن دعمت حق الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة للعام 67، وقررت حق اللاجئين بالعودة، إلا أنها بالمقابل تقــــــــــــرّ بحق الكيــــــــان الصهيوني «الشرعي» في أرض فلسطين. وأخـــــــــــــيراً، فإن تلك الشرعية، ومعها المواثيق والأعراف الدولية والقـــــــانون الدولي الإنساني كافة هي بالنهاية نتاج توازنات داخل المؤسسات الدولية. أما اليوم، فإن الفقه القانوني الذي يقدم تفسيراته فإنه يخضع أيضاً لا لتوازنات بل لهيمنة استفزازية للإمبريالية الأميركية، وبالتالي فإن الرهان على تلك الشرعية لن يعني إلا وضع البيض في سلة الصهاينة والإمبرياليين، قبل أن يكون تحايلاً على العقل والمصلحة الوطنية والتاريخ وتشويهاً للوعي السياسي للشعب الفلسطيني. وبعد، فإن إعادة الخطاب الفلسطيني لجادة خطاب التحرير والمقاومة لن يتم كمحض مسألة ثقافية بل عبر إعادة بناء أداة النضال الوطني على قاعدة برنامج قديم/ جديد: تحرير فلسطين. * باحث ومحاضر جامعي مقيم في رام الله.