اليسار في سورية: مهمة واحدة من أجل انتصار الثورة العفوية

ثورة الخامس عشر من آذار تَعرف حالة من الأزمة الثورية المعقدة. فإذا كانت الأزمة الثورية حالة تمر بها
حجم الخط
ثورة الخامس عشر من آذار تَعرف حالة من الأزمة الثورية المعقدة. فإذا كانت الأزمة الثورية حالة تمر بها كل الثورات من جراء الصراع بين السلطة المهيمنة والطبقات الشعبية الثائرة، ما يضع مجتمع الثورة أمام ازدواج السلطة، فإن وجه التعقيد في الأزمة الثورية هنا يعود إلى أن الصراع ليس فقط ما بين سلطتين اثنتين، وإنما هو صراع ما بين كثرة من السلطات. فللثورة المضادة سلطاتها المتصارعة في ما بينها، الائتلاف، والمجلس، والمنبر، وبعض "الشيوعيين" الذين يبحثون عن موقع لهم في هذا التكوين المتنافر باسم "الوحدة الوطنية للمعارضة". من هذه السلطات التي تمارس دورا مؤثَّرا في الأزمة الثورية، سلطة السياسة الدولية بوجه عام، والتي تخضع للإمبريالية ما بعد نهاية الحرب الباردة. السلطة الدولية بدورها منشقة إلى معسكرين، روسي صيني إيراني، من جهة، أوروبي أمريكي من جهة ثانية. تركيا من جهة، إسرائيل من جهة ثانية، الأردن وأل سعود والنهيان والخليفة، من جهة ثالثة، لبنان من جهة رابعة، هيئة التنسيق التي ما تزال تراهن على هامش ممكن من المفاوضات مع السلطة الحاكمة في إطار مؤتمر دولي، من جهة خامسة. سلطة من لا سلطة لهم. الطبقات الشعبية التي تفتقد إلى قيادة ثورية مركزية تحمي ثورة هذه الطبقات من سرقة الثورة المضادة وسلطاتها لثورتها. هذه الأزمة الثورية ترتفع إلى أعلى درجات التأزم، ما دام اليسار الثوري والشيوعي لا يمارس أية سلطة ثورية ضمن الأزمة، وطالما يفتقد الشيوعيون واليساريون الثوريون إلى جبهة يسارية ترجِّح موازين القوى لصالح الطبقات الشعبية، صاحبة الثورة، وتسحب من كفة الثورة المضادة أثقالها. برنامج الثورة المضادة بمكوناتها التنظيمية، من ائتلاف وطني، ومجلس وطني، وإعلان دمشق والمنبر الديمقراطي، قطعت شوطا طويلا في تنفيذ سياستها. تفريغ الثورة من مضمونها السياسي بسلخه عن التكوين الاقتصادي الاجتماعي، بحيث تنقطع الصلة ما بين الثورة والسياسة، الطبقات الشعبية والسياسة، لتبقى العفوية مسيطرة على الطبقات الشعبية، وكي تتحوَّل الثورة من حالة من الصراع الطبقي والوطني، المعادي لإسرائيل والمناهض للرأسمالية البيروقراطية في سورية، إلى قضية مُدرجة على مائدة الدبلوماسية التي أصبحت، ما بعد سقوط حائط برلين، مقهورة تحت القيادة التعسفية للإمبريالية. بل وإنها نجحت في تسليح الجيوش المقاتلة تحت شعار "الثورة"، بفضل علاقتها الوظيفية بآل سعود وخليفة ونهيان. حتى إنها لن تلبث وتحوز على أسلحة متطورة من الإمبريالية الأمريكية الأوروبية التي ستنتهي إلى التدخل عسكريا، حسب ما يُفهم من المناقشات التي تصدح في المؤسسات "الديمقراطية"، في واشنطن ولندن وباريس، معلنة عن نواياها الحربية ضد الحكم السوري المتسلط. الثورة المضادة، بهذا المعنى، لديها برنامج يجد طريقه إلى حيز التنفيذ بنجاح. بيد أن جانبه المخفي أدهى من التخريب الصريح لثورة الطبقات الشعبية. إنه مرتبط بوثاق تحالفي مع السياسة الإقليمية للإمبريالية. إبادة حزب الله الذي انتحر بانضمام قواته إلى النظام الحاكم ضد الشعب في سورية. عزل حماس بعدما نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل باستدراج السلطة الفلسطينية إلى استئناف المفاوضات في واشنطن. تدمير القوة النووية لإيران. سياسة حزب الله الانتحارية، وسياسة حماس الانعزالية، ناهيكم والتدخل العسكري لإيران إلى جانب النظم الحاكم، يحظى، كل ذلك، برضى السياسة الدولية، طالما تمهد، هذه السياسة وتلك، الطريق أمام ما تهدف إليه السياسة الدولية التي تحكم اليوم العالم تحت راية الحلف الأطلسي وروافده. ألا وهو ترجيح موازين القوى في المنطقة بصورة أكثر صلابة وثقلا، بحيث ترجح كفة تركيا وإسرائيل وأمراء شبه الجزيرة العربية. هذه الظروف مجتمعة تُتَوِّج البورجوازية في سورية كشريك ، بدون قيد أو شرط، للعولمة النيوليبرالية. الجيش الحر يُشكِّل، من حيث تكوينه، حلقة صلبة في الثورة المضادة. إن عددا من قادته المؤسِّسين يدعون علانية إلى التدخل العسكري للحلف الأطلسي. تكوينه السياسي مزيج خليط هجين، من الوطنيين الأحرار، وأمراء الحرب، والعصابات، والسياسة الدينية. هو الذي قطع الصلة ما بين الطبقات الشعبية والثورة، واقتلع عينيها، وألزمها بالصمت. جاء قبل أن ينضج العمل السياسي، ما أدى إلى عسكرة الثورة، والحيلولة دون تنظيم الطبقات الشعبية تحت راية ثورة من أجل الشعب. فإذا بالثورة ذات الدوافع الاقتصادية الاجتماعية، ناهيكم والسياسية، كالقمع ومحاربة الفلسطينيين في لبنان، والمواقف المشبوهة للنظام المهيمن من التطورات العراقية منذ الحرب العراقية الإيرانية، واستهتاره بالجولان المحتل، تتحول إلى معارك عسكرية كلاسيكية مدمرة للعمران. إن تبني ما يسمى بالجيش الحر لحرب المواقع والسيطرة على خطوط الإمداد، لن بنجح، مهما طال الزمن، وفي الظروف الإقليمية والدولية السائدة، في إسقاط النظام المهيمن. لذا، فإن الثورة المضادة تعوِّل عليه الآمال، بعدما نجح في تنفيذ مهمة الفصل ما بين الطبقات الشعبية والثورة، في إنجاز مهمته الثانية، ألا وهي تصعيد العمليات العسكرية، وترك الباب مفتوحا أمام دخول منظمة القاعدة ومشتقاتها، بالإضافة إلى التدمير الذاتي لجيش السلطة، والذي كُرس لحماية الحكام وسحق الحركة الوطنية والديمقراطية في سورية ولبنان وغيرهما، بحيث تتشكل "ظروف موضوعية" ذات صلة بالعمران والعصبية والاستبداد الشرقي وفتح أسواق المنطقة أمام العولمة النيوليبرالية، لتَفرض بالقوة، عسكريا، سياسيا ودبلوماسيا، التدخل العسكري للإمبريالية، من أجل إعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة. سايكس بيكو جديدة تمسح الحدود مع كل من إسرائيل وتركيا، وتنصَّب الليبراليين في المنطقة حكاما منقادين للسياسة الدولية الإمبريالية، والعولمة النيوليبرالية، وتذويب الاقتصاد الوطني في المنطقة الحرة لبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، والاتحاد الأوروبي والسوق العالمية الرأسمالية الإمبريالية العالمية أيَّدَت، وما تزال تؤيِّد، ثورات "الربيع العربي". ذلك أن المؤسسات الحاكمة منذ الخمسينات، أو ما بعد الاستقلال الوطني، لم تعد، من حيث تكوينها الإيديولوجي، من قانون وتشريع ودستور وعسكريتاريا، وما طرأ من تحولات جوهرية في الطبقات الوسطى، أي صعود شرائح واسعة منها إلى البورجوازية المعولمة، لم تعد من وجهة نظر الإمبريالية، مؤهلة للتعايش مع التطورات الأخيرة التي لحقت بالعالم ما بعد سقوط حائط برلين، وكان من الضروري التخلص من أنظمة حسني مبارك، ومعمر القذافي، وزين الدين بن علي. تأييدها لسقوط هؤلاء يَحتمل في منظورها السياسي فرصا قوية لانقضاض الثورة المضادة على الثورات العفوية للطبقات الشعبية، لا سيما وأنها معدمة من أي تنظيم سياسي يساري ثوري. غير أن ميدانية القاهرة، ومقاومة الشعب التونسي لحزب النهضة الحاكم، يشير إلى أن الثورة في هذين البلدين، بالرغم من أن العفوية ما تزال طاغية عليها، ما تزال مستمرة. إنها تخوض اليوم خلال "المرحلة الانتقالية" حربا سياسية مناهضة للسياسات التي تتخذ من الدين إيديولوجية للاستيلاء على الحكم كي تنفرد البورجوازية في توجيه السياسة والاقتصاد، السيطرة عليهما، والهيمنة على المجتمع بالاعتماد على سياسة تبرِّر ممارساتها ونظامها البورجوازي باللجوء إلى الدين، من حيث هو إيديولوجية الدولة. التخلص من النظام المهيمن في سورية حظي بدوره بتأييد من الإمبريالية. إلا أن أزمنة الثورة، من جراء الظروف الإقليمية لسورية، تختلف عن مثيلاتها في كل من تونس ومصر وليبيا. أي إن نضج الثورة المضادة في سورية مهما بلغ من تقدُّم، فإن سقوط النظام المهيمن يتزامن مع المسار الزمني لمسح الحدود مع كل من تركيا وإسرائيل، وتوجيه ضربات عسكرية محكمة للنظام النووي الإيراني بأقل الخسائر الممكنة. إن النظام المسيطر في سورية لن يسقط ما لم تتغير الخارطة السياسية في المنطقة، وذلك عبر حرب تضع خطة سايكس بيكو الثانية موضع التنفيذ. فإذا كان النظام ينال من العمران تخريبا، وكانت الجيوش الحرة تخلِّف وراءها الدمار كلما احتلَّت موقعا، وتأتي، هي وخصمها النظامي، بانسحابها منه على ما تبقى فيه من عمران، فإن زوال العمران يؤذن بسقوط السلطة. لا سيما، وأن المؤسسة العسكرية الحاكمة تدمِّر نفسها ذاتيا. إيديولوجية الثورة المضادة للسيطرة على السلطة، كما هي سائدة اليوم في سورية، إن لم تكن الدين، فإنها الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمواطنة، والحريات العامة والفردية، والمجتمع المدني. لكن المعطيات التي ترافق الثورة المضادة، والتي جاء ذكرها أعلاه، تشكِّل مقدمة لمرحلة انتقالية لن تجد أرضا ثابتة لبناء استقرار سياسي لا غنى عنه لحماية الديمقراطية. وقائع الأحداث التاريخية التي تحرِّك سورية منذ ما يزيد عن السنتين اثنتين، تقع تحت تأثير العسكريتاريا والسياسة الدولية. إن وقائع الأحداث، من حيث هي التي تحدِّد الظروف الموضوعية التي ترافق ما تأتي به الأحداث التاريخية من تغيير، تؤكد أن حالة من الفوضى ستتحكم بديمقراطية موعودة تهتز فوق ساحة إقليمية متحركة بفعل الزلازل. هذا، وإن الفجوة العميقة التي تفصل ما بين الطبقة السياسية والطبقات الشعبية لا يصل بين هاتين الطبقتين أي جسر مهما امتد. أي إن المرحلة الانتقالية في سورية أكثر تعقيدا بمراحل، من أن تقوى صناديق الاقتراع على إيجاد حلول لها. منها على سبيل المثال، ملايين المهجرين الذين باتوا بلا سقف يحميهم ويِّجمع تحته الأسر الممزقة والمشتتة. أضف إلى ذلك، أن المستوى المعيشي للطبقات الشعبية انحدر، من جراء الحرب بين الجيشين، إلى حالة غير صالحة للحياة، وأن شرائح من الطبقة الوسطى انتقلت من الحالة البورجوازية إلى حالة الفقر والعطالة. إذ إن الثورة العفوية، لم تفصل فقط ما بين الطبقة السياسية والطبقات الشعبية، وإنما حرَّكت ونقلت خطوط التماس الاجتماعية من موقع إلى آخر، وقلبت ميزان التركيب الطبقى والملكية الفردية ورأس المال. لأن كبار التجار هضموا صغارهم بعدما انهاروا، وأصحاب الثروات المنقولة وغير المنقولة ارتفع لديهم تراكم رأس المال، لأنهم استفادوا ممن هم أقل ثروة منهم، وباعوا ما لديهم بأسعار زهيدة بعدما لحق بهم الإفلاس. اليسار الشيوعي، أو الماركسي الذي يلقى لدى المثقفين صدى أفضل من الشيوعي، والذي انبثق عن تورة الخامس عشر من آذار، يتبنى الآن برامج سياسية ثورية يغلب فيها التقاطع والتشابه على التضاد. غير أن بقايا الاستبداد الشرقي، بالرغم من أن هذا النمط من الإنتاج تلاشى، إلا أن رواسبه السياسية والاجتماعية ما تزال تفعل فعلها. جنون العظمة، العصبية الأثنية، غلبة الكلمة والنص المخطوط على الواقع الملموس، حب الذات، والأنانية، هي التي تنتصب كجدار العار الإسرائيلي، لتحُوْل دون التأسيس للجبهة اليسارية الثورية. إن ملامح الحالة السورية، كما تقدَّم الإشارة إليها أعلاه، تضع أمام اليسار الثوري، مهمة عاجلة وفورية، لمواجهة الثورة المضادة، والاستعداد للمرحلة الانتقالية، وتوفير الظروف اللازمة كي ما تبقى الثورة مستمرة، سواء في مرحلة بناء الديمقراطية البورجوازية، أو على مسار الانتقال إلى الاشتراكية. هذه المهمة التي تملي على الشيوعيين واليساريين الثوريين بناء جبهة على أسس من برنامج سياسي واستراتيجية ثورية، ما هي سوى النضال من أجل العودة بالطبقات الشعبية إلى النضال السياسي. الأمر الذي يستدعي برنامجا سياسيا يناضل من أجل الارتفاع بالمستوى المعيشي والحياتي للطبقات الشعبية، والكفاح من أجل دستور يتبنى تشريعات دستورية تقر بأن الدولة توجه الاقتصاد في خدمة التنمية وتلبية احتياجات المجتمع في سورية، والارتفاع بالمستوى المعيشي والحياتي للطبقات الشعبية. فإذا كانت هكذا مهمة سياسية عسيرة المنال، بالرغم من أنها مركز الثقل في كل استراتيجية ثورية تعمل من أجل توفير ظروف سياسية واجتماعية أفضل للطبقات الشعبية، عبر المراحل، على مسار الانتقال الاشتراكي، فلأن يسارنا الثوري ولد ومات مرارا، إلا أنه بقي دوما خاضعا للنصوص، غريبا عن الواقع الملموس. هذا الواقع، يتضمن ما هو مخف تحت مساحيق الإيديولوجية. ثورة الطبقات الشعبية حقيقة لا تُرى إلا بأعين المادية التاريخية. لذا، فإن الشيوعيين منحازون دوما إلى الحقيقة، من حيث هي الثورة الاشتراكية الكامنة دوما في صفوف الطبقات الكادحة.