المثقّف والسلطة

حجم الخط
يتزايد، وسيتزايد، الحديث عن علاقة المثقّف والسلطة. في عصر الانتفاضات، وفي عصر تغيير (شكلي) لبعض الأنظمة، سيتعاظم دور بعض المثقّفين في العالم العربي (المثقّفات مبعدات لضرورات الحفاظ على شرف القبيلة التي تسعى قوّات الاحتلال والأنظمة، مثل النظام السوري وأنظمة النفط، إلى الدفاع عنها وتعظيم دورها الرجعي). ولكن، لن يختلف دور المثقّفين في العالم العربي عن دورهم في دول ديموقراطيّة: المرضيّ عنهم سيبرزون، والمغضوب عليهم سيُهمّشون أو سيزجّ بهم في السجون، أو ستتدحرج رؤوسهم في الرياض. لكلّ نظام مثقّفوه وكتّاب أعمدته. تجنيد آل سعود لهذا العدد الهائل من الكتّاب الأبواق في صحف أمرائهم ظاهرة تستحقّ الدرس، وخصوصاً أنّ بعض هؤلاء الكتّاب يجاهرون بليبراليّة منافقة من ناحية، ويصمتون عندما يُقطع رأس امرأة في السعوديّة بتهمة تعاطي السحر. المثقّفون العرب لم يكونوا يوماً بعيدين عن السلطة. لم يكونوا بالضرورة من صنّاع القرار، لكنّهم لم يمانعوا في لعب دور أبواق صنّاع القرار. المثّقّف العربي لا يصل إلى السلطة وإن اقترب منها: هو في السلطة. المثقف العربي لا يصل إلى السلطة إلا متسلّقاً لحركة سياسيّة شعبيّة لأنّه لا قاعدة شعبيّة له: أو لنقل إنّ حركات سياسيّة تتسلّقه مثل السلّم وتستخدمه قبل أن تستنفد غرضها منه. علاقة المثقّف بالسلطة تحظى باهتمام. إدوار سعيد وغيره كتبوا في الموضوع. أراد إدوار سعيد من المثقّف أن يلعب دور الناقد والمُصلح والمُصحّح. كارل ماركس كتب عن الفلاسفة وطالبهم بضرورة تغيير العالم، لا بتفسيره. لكن الكتابة عن المثقّف تحتاج إلى جذريّة أكبر. نحتاج إلى مناقشة وجود المثقّف، أي التصنيف الاجتماعي له. من تراه يكون؟ ومن هو (أو هي)؟ هل هي وظيفة؟ هل يصبح مثلاً كل أستاذ جامعة مستحقّاً للقب مثقّف؟ وهل يصلح اللقب على كلّ من ألقى قصيدة أو غنّى بيت عتابا أو ناجى القراصيّة تحت وطأة الخمر؟ ثم، هل يصبح كلّ من قبل وظيفة في مركز أبحاث مثقّفاً؟ هل هو كل من وضع كتاباً أو كتب مقالة أو دبّج تغريدة في حق الحاكم؟ هل هو الذي يكتب خطباً للحاكم (أو الحاكم السابق، سعد الحريري) أو حتى تغريداته؟ ولماذا نسلّم بجواز خلق مهنة أو تصنيف المثقّف من دون مُساءلة؟ هل هذا نتيجة تقسيم العمل الصارم في النظام الرأسمالي الحديث؟ الحديث عن المثقّف في الرأسماليّة الحديثة ينبع من فصل بين العمل اليدوي والعمل الذهني. هذا يدخل طبعاً في باب تهميش الطبقة العاملة وقمعها. أرادت الطبقة الحاكمة أن تكمّ أفواه العمّال عبر إقناعهم بأنّ دورهم ينحصر في العمل اليدوي، لا غير. هذا جزء من تطوير الرأسماليّة عندما تطورّت نحو رأسماليّة الدولة كي تنقذ النظام الرأسمالي برمّته. في القرن التاسع عشر، كانت الطبقة المثقّفة تزخر بعمّال وأصحاب دكاكين ونجّارين وحرفيّين. كانت الطليعة الشيوعيّة تضمّ إسكافيّين وفقراء (طبعاً، ماركس ميّز بين صفوف الفقراء واحتقر «البروليتاريا الرثّة» وأطلق صفة «كيس البطاطا» على الفلاحين). هذا التقسيم بين العمل اليدوي والعمل الذهني فعل فعله، فأصبح كلّ ممثّلي الشعب (والعمّال) من ذوي المهن ذات صفة العمل «الذهني». أين يقع غسان غصن (رئيس اتحادات العمّال في لبنان) في هذه التصنيفات؟ لا سمات العمل اليدوي تنطبق عليه، ولا سمات العمل الذهني). لا تجد في الديموقراطيّات الغربيّة تمثيلاً للعمّال والمزارعين، إذ إنّ رجال الأعمال والمحامين يحتكرون التمثيل السياسي في الولايات المتحدة. (يستعمل المجلس العسكري في مصر وبعض الأنظمة الجمهوريّة القمعيّة كوتا العمّال والفلاحين لا لجلبهم نحو صنع القرار، بل للحكم باسمهم). مجموع من يعمل في مراكز الأبحاث يصبح حكماً في نطاق عمل المثقّفين. والذين يدورون بورقة وقلم وحاسوب حول الحاكم هم مثقّفون. أصبح العمّال والمزارعون في منأى عن التفكير والإنتاج الذهني بحكم هذه التصنيفات الاعتباطيّة الآتية من فوق. وعليه، تعرف فئات المجتمع حدودها وتلتزم آداب الطبقة الحاكمة المفروضة عليها. لها أن تقرأ عن سجالات المثقّفين وأن تتابع صراعاتهم، لكن عليها أن تبقى في منأى عن صنع القرار وعن «التفكير» وعن المساهمة في النقاش الدائر. هناك ضرورة لكسر هذا الجدار الوهمي بين العمل اليدوي المحتقر والعمل الذهني المحترم (في الشرق والغرب). هناك ضرورة لنسف صيغة المثقّف وفئته من أساسها كي ينفتح المجال أمام الجميع من مختلف الفئات والطبقات للمساهمة في النقاش الثقافي والسياسي. لا يحتاج المرء إلى تدريب وإلى شهادات (حتى سعد الحريري نال شهادات) كي يصبح مثقّفاً. لكنّ هناك سبباً آخر لقلب الموازين: إنّ الثقافة صناعة، كما كتب عنها ثيودور أدورنو (وقد جمعت مقالاته عن الموضوع في كتاب لم يُترجم إلى العربيّة). إنّ الثقافة صناعة، والصناعة تحتاج إلى رأسمال، ورأس المال هو بحوزة الطبقة الحاكمة وهو لا يتوزّع بالقسطاس على كل فئات الشعب. وعليه، فإنّ رأس المال يحدّد من يدخل في عمليّة إنتاج الثقافة (صحيح أنّ هناك ثقافة مضادة للثقافة السائدة والمُصنّعة، لكنّها تعاني الفقر والتهميش). إنّ صناعة الثقافة المضادة هي أصعب بكثير من صناعة الثقافة السائدة التي تتمتّع بكميات هائلة من المال. هي أن تستطيع أن تنظّم مهرجاناً مضاداً لمهرجان الجنادريّة، أو أن تقاوم «ثقافة» آل الحريري، أو أن يستطيع علي فرزات الاستمرار في نشر مجلّة «دومري». المثقّف في العالم العربي لم يكن يوماً بعيداً عن السلطة. كان وقوداً وأداة في الصراعات العالميّة والإقليميّة في العالم العربي. عودوا إلى تلك الحقبة تجدوا أنّ عدداً من صحافيّي اليوم وكتّابه كانوا يُترجمون الدعاية الأميركيّة المُضادة للشيوعيّة (تخصّصت «دار النهار» اليمينيّة الرجعيّة في هذا النوع من الكتابات). إنّ قدري القلعجي (اليساري السابق الأوّل) بدأ مثقّفاً شيوعيّاً وانتهى حامل حقيبة لآل الصباح، كما كتب عنه إبراهيم سلامة. كما أنّ المثقّفين تجندوا في المعسكرين المتصارعين على الصعيد العربي. جذب آل سعود وآل الصباح عتاة الرجعيّين من المثقّفين كي يساهموا في الحملة ضد جمال عبد الناصر وضد كل شعارات المرحلة التقدميّة، فيما كان المثقّفون في الطرف الآخر منجذبين عقائديّاً ومجاناً، في مجملهم (كان ذلك قبل وصول البعث إلى السلطة). كانت جريدة «الحياة» نقطة التجمّع للرجعيّين العرب، فيما تناثر الباقون في الصحف والمطبوعات القوميّة واليساريّة. لكن هذا تاريخ. المرحلة الحاليّة لا تزال ترزح تحت وطأة الحقبة السعوديّة الأولى والثانيّة. وفي هذه المرحلة، لم يبتعد المثقّف عن السلطة، وخصوصاً في أجهزتها الإعلاميّة والاستخباريّة. فاضل البراك كان نصف أكاديمي ونصف مدير لواحد من أكثر أجهزة الاستخبارات وحشيّة حول العالم. فاضل البراك كان يدير جهاز الاستخبارات، فيما كان ينشر أطروحته لشهادة الدكتوراه. وعدد من أجهزة الاستخبارات العربيّة استعان بالمثقّفين الذين كانوا بارزين في أجهزة الإعلام والدعاية. ولم يقتصر تأثير المثقّفين فقط على هؤلاء الذين يقطنون في البلدان العربيّة، بل تعدّى ذلك ليطاول المثقّفين المنتشرين في المهاجر والمنافي، كما أنّ إعلاميّي المهجر العرب يدينون بالكامل تقريباً لأنظمة النفط (بعدما كان بعضهم مديناً لنظام صدّام عندما كان سخيّاً). ولكن في المقابل، فإنّ هناك مثقّفين ناضلوا ضد الأنظمة القائمة وتشرّدوا جرّاء مواقفهم، وهناك منهم من مات في السجون. الإجمال في الحديث عنهم جميعاً جائر. المرحلة الحاليّة ستشهد هجمة من المثقّفين. الكثير منهم كان جزءاً من النظام السابق (إن في ليبيا أو مصر أو تونس)، وهناك من كان مُهمّشاً أو مُبعداً. لكن القول بأنّ مبارك وبن علي والقذّافي أبعدوا المثقّفين، فيما كان هناك عدد وافر من الكتاب والشعراء والأساتذة الجامعيّين في خدمة النظام، قول يجافي الحقيقة. يريد لنا من يتنعّم بصفة المثقّف أن يغسل أيدي كل المثقّفين من آثام المرحلة السابقة. لم يكن فاروق حسني وحيداً في خدمة نظام مبارك. وهناك مثقّفون ممن يمتهنون خدمة النظام ومن يليه. المهم التقرّب من السلطة. وهناك ظاهرة المؤتمرات والندوات والمراكز البحثيّة النفطيّة التي تجذب المثقّفين وتمنح الجوائز وتقرّر تصنيف المواهب. دبي باتت مركزاً مُقرّراً للذوق الثقافي العام. والمثقّف الذي يحيد عن الخط المرسوم له، يعاقب وتُسحب منه الجائزة (كما حدث مع سعدي يوسف في جائزة العويس). على المثقّف الطاعة، والطاعة تقضي على الخلق والإبداع. يكفي أن تشاهد مسرحيّة كركلا المُكرّسة لتبجيل الشيخ زايد. لكن الانتفاضات العربيّة أدخلتنا في حقبة جديدة من أدوار جديدة للمثقّفين. المنصف المرزوقي من صنف آخر. معارض عنيد لنظام بن علي، وكان حريصاً على مناصرة حقوق الإنسان في كلّ الدول العربيّة دون استنثاء. وصل المثقّف المرزوقي إلى السلطة، لكن بثمن قد يزيد في قيمته عبر الزمن. وصل المرزوقي عبر تحالف مع نسق باطني من الإسلام السياسي. راشد الغنوشي نموذج لما ينتظرنا من نفاق الإسلام السياسي القادم بمباركة أميركيّة. الرجل في كتابه عن «الحريّات العامة في الدولة الإسلاميّة» كان واضح المرامي: الحريّات في مفهومه لا تسود دون هداية من تفسيره المُحدّد للشريعة، والديموقراطيّة تخضع لسلطة ومعايير أعلى منها، مُستقاة من الدين. قرّر المرزوقي من أجل فوز حزبه أن يهادن الإسلام السياسي هذا وأن يميّع الأجندة العلمانيّة التي يُفترض أن تكون في صلب عقيدة كل حزب ليبرالي أو يساري. لم يكن حجم التنازل قليلاً: قرّر المرزوقي جعل الإسلام السياسي مقبولاً من وجهة نظر الليبراليّة واليساريّة (كان المرزوقي أقرب إلى اليسار في السابق، لكنّه خاض الانتخابات النيابيّة زعيماً لتيّار ليبرالي مُهادن للحركات الدينيّة). ووصل المرزوقي إلى السلطة في موقع رئاسي يفتقر إلى السلطة. ووصل بتسوية تعطي السلطة بالكامل إلى الحزب الذي حاز أقلّ من 40% من الأصوات في انتخابات بولغ في نسبة الاقتراع فيها. من المبكِّر التحذير من سيناريو علاقة حزب «تودة» بنظام الخميني. لكن هناك ما ينذر بصفقة رهيبة يعقدها ممثّلو الإخوان المسلمين (ومن شابههم) في العالم العربي مع الغرب وحتى مع إسرائيل. إنّ زيارة راشد الغنوشي لواشنطن سبقتها زيارة نائبه، والاثنان قدّما أوراق الطاعة إلى الذراع «الفكري» للوبي الصهيونيّ، أي مؤسّسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. الغنّوشي، في خبر لم ينفه، التقى مسؤولين إسرائيليّين في واشنطن، حسب ما ذكرت مجلة «إيكونومست» الرصينة. الصحف الإسرائيليّة تحدّثت عن مبادرة من إسرائيل نحو الإخوان وأنساقهم في العالم العربي. وجيفري فيلتمان أكّد لصحيفة «هآرتز» أنّ الإخوان طمأنوا واشنطن إلى أنّهم لن يلغوا معاهدة الاستسلام أمام إسرائيل، وسلفيّو مصر بدأوا مبكّراً بمغازلة إسرائيل وأميركا، وتبنّوا احتلال إسرائيل لـ78% من فلسطين. لكن الغنوشي أوضح لـ«الشرق الأوسط» أنّ كلامه أمام الصهاينة لم يكن للنشر، ونفى فقط أن يكون قد انتقد الأنظمة الملكيّة العربيّة. وقد لاحظ المرزوقي أنّ الغنوشي أراد أن يُبقي وزير المال وحاكم المصرف المركزي في تونس، وهما من عهد بن علي. الصفقة تتبدّى معالمها بوضوح. الغنوشي طمأن الصهاينة إلى أنّه يعارض تضمين بند ضد التطبيع مع إسرائيل في الدستور التونسي الجديد. لكن المرزوقي ـــــ هذا المثقّف في السلطة بدون سلطة ـــــ أتى بأسلوب جديد. قرر بيع القصور الرئاسيّة وقرّر التبرّع بجزء من راتبه، كما أنه تحدّث بأسلوب جديد. قد يكون المرزوقي أكثر الزعماء العرب قوّة وسلطة ـــــ من الناحية الأخلاقيّة. ويستطيع المرزوقي أن يعزز قوّته الأخلاقيّة والمعنويّة، وأن يصبح الناظر للانتفاضات العربيّة ـــــ لو نأى بنفسه عن السياسة. لكن، كيف ينأى عن السياسة وهو الرئيس؟ وهناك أيضاً ما يقلق: لماذا لم يشر المرزوقي إلى البحرين في خطابه الرئاسي الأوّل بعدما كان قد أيّد ثورة البحرين؟ ولماذا قرّر أن يكون اتصاله الرئاسي الأوّل بطاغية المغرب؟ وهل سيخفت صوت المرزوقي ضد إسرائيل؟ ولماذا قرّر المرزوقي رئيساً أن يشكر هيلاري كلينتون على دعم الحكومة الأميركيّة «لثورة تونس»، كما جاء في الإعلان الرسمي للتلفزيون التونسي؟ ليس من المعقول أن يكون المرزوقي قد نسي السنوات والعقود الطوال من الدعم الأميركي للطغيان في تونس. هل طغى السياسي على المثقّف بعد أيام فقط من تولي الرجل منصب الرئاسة؟ من المستحيل أن يبدّد المزروقي مخاوفنا، لو بقي في سلطة تخضع لحكم الحركات الإسلاميّة. أمامه أن يستمرّ كشاهد أو أن ينأى بنفسه ويعود إلى صفوف المعارضة المبدئيّة التي برع فيها. برهان غليون نموذج آخر لمثقّف لم يصل بعد إلى السلطة، لكنّه يتصرّف كأنّه استوى في العرش الشامي. ولايته «الرئاسيّة» ستنتهي بعد أسابيع، لكن من المرجّح أنّه سيفوز بولاية ثانية من مجلس غير مُنتخب وبأكثريّة 99% من الأصوات. الإمارة القطريّة ستهلّل للديموقراطيّة الهاطلة مثل القراصيّة. غليون يرسم خطوط سياسته الخارجيّة أو بالأحرى سياسة سوريا الخارجيّة، وبما يتلاءم مع خطوط 14 آذار اللبنانيّة والسوريّة، والتي تتوافق بدورها مع سياسات حلف الناتو (صاحب الفضل في تنصيب ميليشيات الحرب المتقاتلة والمتشدّدة دينيّاً في ليبيا). غليون الذي كان لا يتردد في نقده لأنظمة الخليج والذي كتب في العلمانيّة، تحوّل، مع ما يُنقل عنه من تذمّر، إلى واجهة للإخوان المسلمين. غليون لم يعلّق بعد على خطبة عصماء على «يوتيوب» للمعارض السوري البارز، مأمون الحمصي (وهو المُفضّل من آل الحريري وباقي شلّة 14 آذار) يهدّد فيها العلويّين كل العلويّين بالإبادة الجماعيّة. لكن غليون لم يسمّ ابنه خليفة له. ليس بعد. لا يصلح أو يجب أن لا يصلح المثقّف في السلطة. لقد قرأ الكثير من القصص والقصائد وتأثّر بالملاحم. يرى نفسه آتياً إلى العاصمة على صهوة جواد مطهّم والجماهير الغفيرة تلوّح له بالمناديل المخضّبة بالدموع والمآسي. يفكّر في اختيار رسّام مفضّل كي يجعل منه موضوع رسم زيتي يخلّده في المتاحف. وهو ينظر في أمر جمع مؤلّفاته الكاملة في مجلّدات ولو كانت تغريدات على تويتر. يدرس إمكانيّة نزع السترة المدنيّة ووضع شال ملوّن حول العنق واعتمار قبّعة غيفارا أو قبّعة فنان في الحي اللاتيني في باريس، أو الطربوش المبكّر لشكري القوّتلي (الذي طمأن وفداً قادماً من فلسطين ساعياً وراء الدعم في 1948 بأنّ حدّاداً ماهراً في سوريا «اخترع» القنبلة الذريّة، روى ذلك موسى العلمي في مذكّراته). المثقّف يهوى قصص الأبطال (الخياليّين لا الحقيقيّين) ويهوى البطولة المتخيّلة في نفسه أكثر. يؤمن حكماً بالتفوّق النخبوي وبنظريّة النوعيّة والكميّة. تفوّق على اللينينيّة بأشواط. لا يرى أنّ النخبة المثقّفة تلخّص الطبقة العاملة: يرى أنّ النخبة المثقّفة تختصر وتلخّص الجميع على أن يوافقوا معه صاغرين، وإلا فالآخرون شبّيحة وعملاء للنظام الذي يعارضه ويسعى إلى إنشاء بديل منه مماثل بعلم ورموز جديدة. لن يحكم المثقّف في السلطة. أفضل ما يمكن أن يصل إليه هو خدمة قوى خلفه: من إسلاميّة أو نفطيّة أو خارجيّة غربيّة، أو الثلاثة معاً. لن يُتاح للمثقّف أن يحكم أبداً. طارق عزيز، البوق المبتذل لصدّام حسين، بدأ مهنته مثقّفاً: يدبّج المقالات. طارق عزيز (الوحيد من بين سجناء الاحتلال الأميركي الذي يحظى بتغطية متعاطفة في جريدة «النهار» لسبب طائفي واضح، لا لبس فيه) أنهى أيّامه في الحكم وهو يُحرّر مكرهاً ومأموراً الإنتاج «الأدبي» لصدّام حسين (بعض الحكّام العرب، من طينة صدّام حسين والقذّافي وشبه الحكّام مثل رفيق الحريري، رأوا في أنفسهم مثقّفين، ولكن لحسن الحظّ أنّ شيوخ النفط وأمراءه لا تراودهم تلك الطموحات لجهلهم ولأميّتهم: كيف يكون خرّيج «مدرسة الأمراء» السعوديّة ذا طموحات ثقافيّة؟). يصل المثقّف إلى السلطة في خياله. يحلم بلحظة عبد الناصر في دمشق أيّام الوحدة. يريد من نفسه دوراً لا طاقة له على لعبه. لا يحظى بالتأييد الجماهيري. ينعت الناس بأقذع النعوت. كان بول وولفويتز يريد أن ينصّب كنعان مكيّة (الذي حاز شهادتَيْ دكتوراه من جامعتين في إسرائيل تقديراً له على خدمة الصهيونيّة. ألا يستحق السنيورة الذي قلّد الأمير نايف دكتوراه فخريّة أن يحظى بدكتوراه فخريّة من الجامعة العبريّة؟) رئيساً للعراق: كان ذلك من الخطط القليلة قبل شنّ الحرب في 2003. مكيّة كان يعيش في عالم نسجه في خياله: كتب في مطبوعة صهيونيّة في أوّل الحرب في 2003 أنّ العراقيّين يعرفونه ويحبّونه، لعلّه خلط بين اسمه واسم واحد من سكان النجف. وبعدما تيقّن مكيّة أنّه لا حظوظ له في الحكم في العراق، بعدما رأى مآل رئيسه أحمد الشلبي، عاد خائباً إلى أميركا وطفق يذمّ الشعب العراقي ويتهمه بالتلوّث العقلي نتيجة وقوعه تحت حكم البعث. قبحاً لهذا الشعب الذي لم يقبل بحائز شهادتين فخريّتين من إسرائيل والذي مُنح كرسيّاً أكاديمياً في واحدة من أكثر جامعات أميركا صهيونيّة، وهو الذي لم ينل دكتوراه حقيقيّة في أي مجال، قال في نفسه. قد يصل مكيّة إلى منصب مساعد لمساعد مساعد وزير في العراق الجديد لو ألحق نفسه بمقتدى الصدر، كما فعل أحمد الشلبي، مُلهمه. من الحكمة أن ينبذ الشباب العربي المثقف وأن يبعده عن السلطة: إلا إذا تعهد المثقّف بالعزوف عن تولّي أي منصب في السلطة، مهما ألحّت الحناجر. المثقف في السلطة يعيش وهم السلطة ولا يمارسها. وهو سهل الطواعية لأنّ مراسم السلطة تستهويه أكثر من السلطة بحدّ ذاتها. طارق متري، المثقّف السابق، أصبح واحداً من حاشية فؤاد السنيورة، والأخير واحد من حاشية آل الحريري، وهي بدورها من حاشية آل سعود. لمصلحة الارتقاء بالانتفاضات العربيّة إلى مرتبة الثورات، يتوجّب على الشباب العرب لفظ المثقّفين من صف القيادة ووصمهم بالتطفّل على الثورة، ورميهم بالنعال لو أصرّوا على الاقتحام.