حول الحياة الثقافية في الجبهة الشعبية ونظرية التحدي والاستجابة

حجم الخط

 في لقاء ودي ودافيء جمع الرفاق في اللجنة الثقافية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/ فرع قطاع غزة مع الرفيق أبو جمال غازي الصوراني مسئول الدائرة الثقافية، حيث تم تناول عملية التثقيف وأهمية الفكر في حياة الحزب الثوري والمجتمع الفلسطيني والعربي ، وقد جاء هذا اللقاء ضمن مجموعة من اللقاءات التي تستجيب لواقع العمل الثقافي في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بهدف ربط أهمية هذه الحلقة مع احتياجات العمل ، الى جانب نتائجها المتوقعة في تفعيل دور مؤسسات الحزب من جهة ورفع مكانة العضوية، والتوسع بها والارتقاء بأدائها نحو تطوير أدوات العملية التثقيفية للحزب بما يخدم اهدافه ومبادئه المكرسة لخدمة نضالنا الوطني التحرري والديمقراطي الفلسطيني.

 وهنا أشير إلى المداخلة التي بدأ بها الرفيق أبو جمال بعد حوار طويل ومعمق من معظم المشاركين ، بكل هدوء ورزانة وعينيه تتأمل في الحضور فرداً فرداً وكأنها تتساءل ، وتقول ما هو مستقبل عملية التثقيف في صفوف حزبنا ؟ انطلاقا من وعينا لكون هذا الحزب /الجبهة صاحب التجربة الثورية التي جمعت بين الفهم السليم لطبيعة الصراع الراهن في قلب النضال ضد القوى الامبريالية العالمية والحركة الصهيونية ووليدتها إسرائيل، إلى جانب النضال ضد القوى الرجعية العربية وأنظمة الاستبداد والاستغلال وإسقاطها على طريق تحقيق أهداف شعوبنا العربية في الحرية والتحرر والنهوض والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.

 

يقول الرفيق أبو جمال ... رفاقي الأعزاء .. من أجمل ما قرأت وتأثرت به، ووجدته مُفـتَـقراً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة هو نظرية “التحدي والاستجابة” لصاحبها “آرنولد توينبي 1889 – 1975م”، مشيراً إلى أن شعوبنا العربية –بسبب خضوع وارتهان أنظمتها- لم تستطع التفاعل مع مفهوم الاستجابة بالمعنى الايجابي لمجابهة التحديات التاريخية والراهنة التي واجهتها ، من ثم استمرت حالة التراجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وصولاً إلى المأزق العربي الراهن حيث تعيش معظم مجتمعاتنا في حالة أقرب إلى إعادة إنتاج التخلف والاستسلام لسيطرة التحالف الكومبرادوري في النظام العربي مفسحاً المجال صوب مزيد من مظاهر الاستبداد والفقر والبطالة التي أدت إلى تنامي وتغول حركات التطرف الديني السلفية بمختلف مسمياتها ، كما اشار ايضا وبوضوح الى اهمية العمل الحزبي في صفوف احزاب وفصائل اليسار العربي عموما وفي صفوف رفاقنا الجبهاويين خصوصا، لمراكمة وتفعيل وبلورة عناصر الاستجابة لدى كل رفاقنا في الجبهة – بروح عالية من الدافعية الثورية والوعي العميق لكافة التحديات السياسية والنضالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تواجه قضيتنا الوطنية وقضايانا القومية التحررية والنهضوية ، اذ أنه بدون توفر عناصر الاستجابة بالمعنى الثوري لكافة عوامل التحدي الخارجية والداخلية ، فان الحزب سيصاب لا محالة بحالة من الركود والتراجع وغياب المصداقية والتأثير قي اوساط الجماهير الشعبية.

 إن هذه الفكرة التي طرحها الرفيق أبو جمال حول نظرية التحدي والاستجابة، دفعتني إلى البحث عن هذه النظرية التي أُلخصها فيما يلي:

 هذه النظرية هي محور موسوعة توينبي التاريخية المُعنونَة بـ “دراسة للتاريخ” الواقعة في إثني عشر مجلَّدا، حيث أنفق توينبي واحد وأربعين عاماً في تأليفها.

ما هي نظرية التحدي والاستجابة؟

يُـفسّر توينبي نشوء الحضارات الأولى، أو كما يسمِّيها “الحضارات المنقطعة” من خلال نظريّـته الشهيرة الخاصة بـ “التحدي والاستجابة”، والتي استلهمَها من عِلم النفس السلوكي، وعلى وجه الخصوص من “كارل يونغ 1875 – 1961م” الذي يقول أنَّ الفرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه لفترةٍ ما، ثم قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة:

استجابة سلبية: النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضاً عن واقعه المُرّ، فيصبح إنطوائيّاً.

 استجابة إيجابية: تَـقَـبُّـل الصدمة والاعتراف بها، ثم مُحاولة التغلُّب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطياً.

لاحظْ أنَّ الحالة الأولى من النظرية تنطبق تماماً على حال المجتمعات العربية والإسلامية ، إذ أنهم تعرَّضوا لصدمة الحضارة فلجأوا إلى النكوص إلى الماضي دفاعاً عن النفس بدلاً من العمل لاستعادة القيادة وأستاذية العالم، للأسف لم يَعِي العرب و المسلمون هذه النظرية العظيمة كما لم يَعوا أيضاً أنه “كلما إزداد الوعي قلَّ الإستبداد”، فكان لابد من القراءة والجِدّ والعمل بدلاً من العيش على أطلال “ المجد والفخار بالماضي رغم أهميته ، وهنا لابد من زيادة الوعي والإدراك بعيداً عن الطيبة والسذاجة التي جعلتنا مطيَّة الأمم المستعمرة، ولابد من تطوير ما تركه السلف الناجح وإكماله ليقل الظلم واستبداد القريب والغريب.

أتساءل لماذا جامعة مثل “هارفرد” الأمريكية تُدرس في مناهجها الإدارية طرق “عمر بن الخطاب” في إدارة الدولة وإدارة الأزمات والحروب،و في الوقت نفسه الذي لا يوجد حتى أدنى فكرة لدى المسلمين عن تلك المهارات، بل حتى لم يجعلوه عِلماً يُدرَّس! ولعل هذه النظرية تمثلت في الدولة اليابانية الحديثة التي درست عيوبها وخططت لمستقبلها وانتقلت من دمار القنبلة الذرية إلى ما هي عليه اليوم من الإبداع في الصناعة والمعرفة.

عودة إلى نظرية توينبي، فقد آمن أنه كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة حتى تصل بأصحابها إلى ما يسميه بـ “الوسيلة الذهبية”، والتي تتلخص في أنَّ أي حضارة تقوم بمواجهة التحدي بسلسلة من الاستجابات التي قد تكون أحياناً غير ناجحة في مواجهة التحديات التي تعترض طريق النهضة والحضارة، ولكن بالتحدي وكثرة المحاولات المتنوعة تهتدي الأمم إلى الحل النموذجي الذي يقودها بأمان إلى النهضة والحضارة، وتكون بذلك قد وصلت إلى الوسيلة الذهبية.

 

“الوسيلة الذهبية” في نظرية التحدي والاستجابة:

 لعل مشكلة أمتنا تكمن في مسألة الحلول الفاشلة، حيث أن أمتنا ليست عاجزة من أن تلد أفكاراً تصل بها إلى الوسيلة الذهبية، غير أنها تحتاج إلى سِعَة أُفق وجرأة على التصدي للمشاكل، فالاستمرار في الأخذ بالوسائل المُجرَّبة غير المُجديَّة يُمثـل الدوران حول النفس، بينما لو جربت الأمة طُرقاً جديدة لحققت التغيير المنشود، فقط يتطلب الأمر الجرأة على طرق الأبواب الجديدة وعدم الإكتفاء بالوسائل المجربة سابقاً.

يقول “روبرت شولر”: “أُفضِّل أن أغير رأيي وأنجح على أن أستمر على نفس الطريقة وأفشل”.

ويقول “ليوناردو ديفينشي”: “فقط عبر التجربة نستطيع أن نتعلم شيئاً”. ويقول “توماس أديسون”: “العديد من التجارب الفاشلة في الحياة تكون عندما لا يُدرك الناس أنهم كانوا قريبين من النجاح عندما استسلموا”، ويعلق أديسون على تجاربه الكثيرة: “أنا لم أقم بألف تجربة فاشلة، بل تعرفت على ألف طريق لا يؤدي إلى الحل الصحيح”.

والخلاصة أنَّ هذا العدد من المحاولات سيأتي حتماً بالوسيلة الذهبية، وكل محاولة فاشلة تعطي نضجاً أكبر للحركة التغييريّة صاحبة الارادة او الدافعية الذاتية الثورية باتجاه التحرر والنهوض ،  ذلك إنَّ فكرة الوسيلة الذهبية التي طرحها توينبي تبعث على الأمل، وتجعل من التجربة والمحاولة في حد ذاتها شرفاً كبيراً، لأنها تُسهم بشكل أو بآخر في إحداث التغيير، إما لكونها وسيلة ذهبية، أو لكونها وسيلة أوضحت طريقاً لا ينبغي لأصحاب المحاولات أن يسلكوه ثانيةً، كما أنها تحطِّم فكرة الجمود والتفكير بنمط واحد، فمن جرَّب وسيلة وفشل بها فليجرب وسيلة غيرها.

وعلينا أن نتذكر دائماً، أنَّ التخطيط دون عمل لا يُجدي، وعمل دون تخطيط لا يُجدي كذلك، والوصول إلى الوسيلة الذهبية من خلال تطبيق نظرية التحدي والاستجابة يحتاج إلى عمل حقيقي مدروس وواضح المعالم، ولا نكتفي فقط بالتنظير والخيال.

وهنا نشير إلى ضرورة التفكير والتركيز دائما فيما نحن نريد وإلى أين نحن ذاهبين وما هي الوسائل والأدوات الفاعلة التي تمكنا من تحقيق الأهداف التي نطمح لها ، وكان يقصد الرفيق أبو جمال من خلال حديثه السريع عن نظرية ( التحدي والاستجابة ) أن نعيد الاعتبار لمفهوم القراءة والمعرفة والتخطيط المحكم والجيد لتفعيل العملية الثقافية الذاتية بروح التحدي والتغيير وخاصة إننا نعيش في مجتمعات تتلقى في اليوم الواحد عشرات الصدمات التي أصبحت تؤثر سلبا على حياة شعوبنا العربية .

رفيقي أبو جمال ، إننا محظوظون جدا في وجودك بيننا وعلى رأس عملية التثقيف والتنوير في الدائرة الثقافية لحزبنا العظيم ونتمنى لك الصحة وطول العمر ودمت لنا ولحزبنا .