تفجيرات غزة حدثٌ سياسي لا أمنياً

حجم الخط

لكل حدث مظهر وجوهر. ولـ"تفجيرات غزة" مظهر أمني وجوهر سياسي، يعكس توقيته وهدفه ودوافعه وخلفياته، ويشي بهوية جهة وأدوات تنفيذه، وينبئ بمخاطره وتداعياته، ويحدد سبل معالجته معالجة شافية. وكي لا يختبئ بعضنا-على الأقل- خلف أصبعه يجدر التشديد على أن "تفجيرات غزة" ليست حدثاً أمنياً، بل حدث سياسي، وليست حدثاً يخص حركتيْ "فتح" و"حماس"، بل حدث وطني عام بامتياز. أما لماذا؟
لئن كان التوقيت الزمني لهذه التفجيرات يشي بقرار منْع إحياء ذكرى الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وهو ما تحقق بالفعل، فإن توقيتها السياسي ينطوي على تعطيل "المصالحة الوطنية" المتعثرة والشكلية أصلاً، وعلى وضْع عراقيل إضافية في دولاب إعادة بناء غزة المكبَّل أصلاً بشروط إسرائيلية تتبناها بقيادة أميركية جهات إقليمية ودولية، وعلى، وهنا الأهم، إساءة لهبة القدس التي تتصدر مشهد الصراع مع الاحتلال وتدق جرس تحويل الغليان السياسي والشعبي الفلسطيني إلى انتفاضة، تقدم الأمر أو تأخر، وبمعزل عن الأشكال ستتخذها، وعلى، وهنا الكارثة بعينها، استعادة مشهد الاقتتال الداخلي.
إذا كانت تداعيات "تفجيرات غزة" على هذا المستوى من الخطورة بالمعنى السياسي والوطني للكلمة، وهي كذلك دون ريب أو شك، فإن من الطبيعي والمنطقي، بل البديهي، اتهام حكومة نتنياهو الاحتلال بالوقوف وراء هذه التفجيرات. لكن-من أسف- فإنه، برغم أن الاحتلال هو المستفيد الأول من هذه التفجيرات، إلا أن الاتهام لم يوجه للاحتلال، بل لحركة "حماس" أو لجناح من أجنحتها أو لجهات موالية لها بهذا الشكل أو ذاك. والسؤال هو لماذا صار ممكناً من حيث المبدأ عدم استبعاد احتمال قيام حركة "حماس"، بارتكاب هذا الخطأ، بل الخطيئة؟
أعلاه سؤال كبير ومشروع ومنطقي وموجع، لا يحيل -فقط- إلى حقيقة أن حركة "حماس"، وليست "حكومة التوافق" الشكلية، هي من يسيطر فعلياً، إدارياً وأمنياً، على قطاع غزة. بل يحيل أيضاً إلى أن اتهام حركة "حماس" بارتكاب هذه الخطيئة لم يعد مستبعداً حتى لدى تيارات سياسية وشعبية ومجتمعية معارضة لحركة "فتح"، ذلك منذ استسهال قيادة الحركة، أي "حماس"، في العام 2007 أمر تصعيد بدايات اقتتال داخلي كان بالمقدور السيطرة عليه، إلى درجة الإقدام على حسم الخلاف السياسي المشروع والتنافس الديمقراطي على القيادة بوسائل عسكرية، ما حوَّل هذا وذاك إلى صراع فصائلي، يلتبس فيه الفئوي والأيديولوجي الخاص بالسياسي والوطني العام، ويطغى عليه. في حينه بررت قيادة الحركة خطوتها بوصفها "خطوة اضطرارية"، لكنها كانت في الحقيقة، وكما برهنت تداعياتها في الواقع طيلة سبع سنوات خلت، "خطوة انتحارية"، أدخلت الحركة، خصوصاً، وبقية أطراف الحركة الوطنية والقضية الوطنية والشعب الفلسطيني، عموماً، في انقسام داخلي عمودي متعدد الأبعاد والأوجه، لم ينفع لإنهائه حتى الآن كل التفاهمات والاتفاقات الثنائية والوطنية، وما أكثرها، بما فيها "تفاهم الشاطئ" في نيسان الماضي على تشكيل "حكومة توافق"، قيل في حينه إنها خطوة أولى على طريق طي صفحة هذا الانقسام العبثي والمدمر إلى غير رجعة، ليتبين أنها ليست كذلك البتة، إنما "خطوة اضطرارية" لتحقيق مكاسب فئوية صار تحقيقها غير ممكن ارتباطاً بالتحولات العاصفة الجارية، عربياً وإقليمياً ودولياً، وفي مصر خصوصاً. ماذا يعني الكلام أعلاه؟
لو أن "تفجيرات غزة" حصلت قبل العام 2007، أي قبل تشريع نهج حسم التناقضات الوطنية الداخلية بوسائل عسكرية، لكان من البديهي التعامل مع هذه التفجيرات كحدث أمني، واتهام الاحتلال أولاً بالوقوف خلفها وخلف كل ما يشبهها من أحداث ، وفي أسوأ الأحوال، لتم التعامل معها كحدث أمني فلسطيني داخلي من صنع أفراد متعصبين أو موتورين غير مسيطرٍ عليهم، ويجهلون المخاطر التداعيات المترتبة على فعْلتهم، سياسياً ووطنياً. أما وأن "تفجيرات غزة" وقعت بعد سبع سنوات عجاف من انقسام داخلي عمودي، أنتجته ممارسة ما هو ممنوع وطنيا ومحظور أخلاقياً، أعني استخدام السلاح لحسم قضايا الخلاف السياسي، أو لتحسين شروط ومكاسب التنظيم في التنافس على قيادة الشعب وتمثيله، فإن من الطبيعي والمنطقي أن يجري التعامل مع هذه التفجيرات كحدث سياسي داخلي، وليس كحدث أمني، رغم تعمُّد ترك آثار توحي بأن تنظيماً تكفيرياً هو من ارتكبه.
يعنينا مما تقدم التشديد على أن من الصعب، بل من المستحيل، معالجة التداعيات والمخاطر السياسية والوطنية لهذه التفجيرات، معالجة شافية بمجرد إعلان الإدانة لها والتنديد بها، أو تسجيلها ضد مجهول من على قاعدة "كل متهم بريء حتى تثبت إدانته" الصالحة لمعالجة أحداث أمنية. بل إن من شأن معالجة أمنية لحدث سياسي بهذا المستوى من الوضوح والخطورة أن يزيد الطين بلة، ويضيف خطراً إضافياً، ربما لم يحسب حسابه كما ينبغي من اتخذ قرار التفجيرات، هو جوهراً: تسهيل الطريق أمام الاحتلال وأجهزته الأمنية وعملائه لاستهداف قيادات وشخصيات ومقدرات ومواقع وممتلكات وطنية تابعة لحركتي "فتح" و"حماس" داخل غزة والضفة، مع الإيحاء بأن العمل ناجم عن ردود فعل ثأرية متبادلة بين الحركتين. التحذير من هذا الخطر غير نابع من تهويل أو مبالغة بهدف الحث على معالجة حدث تفجيرات غزة معالجة سياسية، بل من حس وطني مسؤول وحريص يدرك كامل مترتبات ارتكاب الأخطاء والخطايا السياسية الداخلية وتسجيلها ضد مجهول في واقع حركة تحرر وطني ذات توجهات ومشارب سياسية وفكرية متنوعة، وتخوض صراعاً سياسياً وميدانياً مفتوحاً وشاملاً مع احتلال استيطاني عنصري احلالي إقصائي، يصعب تصور رحيله من دون تحويله إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة، بل ولا تتورع حكومة نتنياهو، أشد حكومات هذا الاحتلال تطرفاً، عن رفع منسوب عنصريتها إلى حدود الفاشية، وينتهج أركانها سياسة هجومية لتحقيق المزيد من أطماعهم وشروطهم الصهيونية لفرض "حل إقليمي" يطمس جوهر الصراع، قضية فلسطين وحقوق شعبها الوطنية والتاريخية، ويلبي ناظم المطالب الصهيونية المتمثل في إسقاط حق عودة اللاجئين و"الاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي". وكل ذلك مصحوباً بإجراءات ميدانية غير مسبوقة، سواء لناحية مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها، أو لناحية فلتان عصابات المستوطنين وتصعيد اعتداءاتهم على حياة الفلسطينيين وممتلكاتهم ومقدساتهم، أو لناحية جنون الهجمة على القدس لحسم معركتها، أو لناحية تغيير قواعد الاشتباك بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، واغتيال أبرز نشطائهم في القدس والضفة ومناطق 48، وتكثيف حملات الاعتقال، وزيادة العقوبات الجماعية بأشكالها، وتصعيد حملات التنكيل بالأسرى، بما يذكِّر بإجراءات الاحتلال الأمنية التي أدت إلى انفجار الانتفاضة "الأولى التي تحاكيها، شكلاً ومضموناً، هبة القدس ومناطق 48 ومدن وأرياف الضفة. ومن أسف أنه عوض أن تدفع هذه الهجمة الاحتلالية السياسية الميدانية الشرسة أطراف الحركة الوطنية إلى تطوير وحدة "حكومة التوافق" الشكلية إلى وحدة سياسية، وفي أقله إلى وحدة ميدانية، لتلبية الحد الأدنى من استحقاقات هذه الهبة المتصاعدة ومتطلباتها، نجد من يصر على إعادة الحالة الفلسطينية إلى مربع ما قبل تشكيل "حكومة التوافق"، بل إلى مربع أسوأ، هو مربع الاقتتال الداخلي، واستخدام السلاح لحسم قضايا الخلاف السياسي، وكأن ارتكاب خطيئة تفجيرات غزة هو ما ينقص فلسطينيي قطاع غزة المدمر من شماله إلى جنوبه، وفلسطينيي الضفة المستباحة من أقصاها إلى أقصاها، وفلسطينيي القدس المنتفضة ضد أقسى هجمة تتعرض لها منذ احتلالها في العام 1967، وفلسطينيي مناطق 48 الذين يتوعدهم نتنياهو علنا بالطرد والترحيل القسري.