"الأخطبوط" الألماني والجدار الإسرائيلي

حجم الخط

ليس الأخطبوط وصفاً سلبيّاً، بل هو مجرد استعارة لغوية لوصف دولة مثل ألمانيا؛ ذات نشاط اقتصادي كبير وممتد حول العالم. وإذا دققنا النظر قليلا في العلاقات الألمانية-الإسرائيلية، فيمكن أن نفهم بعض معالم المشهد الأوروبي-الإسرائيلي.

إذ إن تصريح الإيطالية فدريكا موغاريني، المسؤولة عن السياسة الخارجية الأوروبية، قبل أيّام، بأنّها "تريد" أن ترى دولة فلسطينية تؤسس خلال عملها الذي يمتد خمس سنوات، كان مجرد خطوة بعد خطوات السويد بالاعتراف بدولة فلسطين، لتكون الدولة الأوروبية الثامنة التي تعترف بفلسطين (السبع الأخرى اعترفت بها قبل انضمامها للاتحاد)، وبعد قرار مجلس العموم البريطاني بالتوصية لحكومته بالاعتراف بدولة فلسطين، وبعد قرار الاتحاد الأوروبي العام الماضي اشتراط عدم تمويل مستوطنات حتى تستفيد مؤسسات تعليمية إسرائيلية من مشروع "Horizon 2020" لتطوير الأبحاث، وبعد قرارات صناديق تقاعد وشركات سحب استثماراتها وشراكاتها مع شركات إسرائيلية تعمل في المستوطنات.

وتوضح أورين هاريسون، في مقال نُشر في دورية "فورين أفيرز" هذا الأسبوع، تاريخ الوساطة الألمانية في صفقات الأسرى بين الإسرائيليين وكل من حزب الله و"حماس"، وكيف أنّ هذا ترافق أو تآزر مع علاقات ألمانية-إيرانية أعمق (باعتبار إيران راعي حزب الله)، وكيف أنّ ألمانيا الأكثر تحمساً لتسوية مع إيران بشأن ملفها النووي. ورغم نفي ألماني لاتهامات إسرائيلية بأنّ برلين تريد تسوية دولية مع طهران لأنّ هذا يدعم فرص ألمانيا في التعاون الاقتصادي مع إيران إذا ما رفع الحصار عن الأخيرة، فإنّ رؤية برلين لتصور معين للعلاقة مع طهران واضحة، كما أنّ العلاقات الاقتصادية التركية-الألمانية ذات أهمية خاصة.

والواقع أنّ موضوع الاتصالات الدبلوماسية والاستخباراتية الإيرانية-الألمانية، ورؤية إيران لحل الخلاف النووي، ودور الوساطة الألمانية في ملفات الأسرى، يضاف إليها معلومات من مثل أنّ برلين هي ثالث أكبر مانح للمساعدات الإنسانية بعد واشنطن ولندن، بحسب تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) للعام 2013، يوضح الدور الألماني المتصاعد. وبحسب مقال هاريسون، وُجّه جزء مهم من المساعدات مؤخراً إلى شمال العراق (الأكراد)، وتعهدت ألمانيا بقبول 26400 لاجئ من سورية مع نهاية العام 2015. ويمكن ربط ذلك مع البناء على خبرة الألمان في التفاوض، بما في ذلك الاتصال مع الإيرانيين وحزب الله، بأنّ هذا يجعلهم مؤهلين لدور في سورية، والعراق أيضاً، لتعميق مصالح ألمانيا في هذه المناطق.

عمليا، لا يمكن تجاهل الرأي العام الأوروبي. فبحسب استطلاع لشبكة "بي. بي. سي"، فإن ما بين ثلثي إلى ثلاثة أرباع سكان المملكة المتحدة، وإسبانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، لديهم موقف سلبي من السياسة الخارجية الإسرائيلية. وفي حالة ألمانيا مثلا، فإنه عندما يثار موضوع المصالح مع تركيا، لا يكون ممكنا تناسي الوجود القوي للمهاجرين من أصول تركية في ألمانيا (ثلاثة ملايين تركي يشكلون نحو 3.7 % من السكان، إضافة لنحو 1.5 مليون تركي لا يحملون الجنسية الألمانية، بحسب بعض التقارير والتقديرات).

إذا أخذنا بالاعتبار أنّ حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية، تحاول في السنوات الأخيرة لعب دور حاسم في الملف النووي الإيراني وترفض فكرة التسويات الدولية؛ وإذا كانت تخلط أوراق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مع ملفات "داعش" و"القاعدة"، ولها علاقات سلبية (سياسياً على الأقل) مع تركيا، مع تعنت يرفض أن يعطي الأوروبيين أي دور حقيقي في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، فإنه يُمكننا فهم كيف تتسع الهوة بين الأوروبيين ومصالحهم وتصوراتهم للسياسة والسلم الدوليين، ونشاطهم في اتجاهات ومجالات عديدة، من جهة، وبين "إسرائيل" والعقبات التي تضعها، من جهة ثانية.

ما سلف لا يلغي وثاقة العلاقات الألمانية-الإسرائيلية. وفي حالة ألمانيا، فإنّ العلاقات التجارية مستمرة، وتزويد الإسرائيليين بأسلحة مستمر، بما في ذلك الغواصات النووية. وكمثال فقط، فقد ضُمت إسرائيل في العام 2010 إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، رغم أنّ ديمقراطية الدولة شرط للعضوية؛ فلم تؤخذ كل سياسات التمييز العنصري بالاعتبار. وهذا إذا كان يدل على شيء، فهو أنّ السلوك الأوروبي لا يسير بوتيرة واحدة، وبقدر ما هناك رأي عام يزداد اقتناعاً بالعنصرية الصهيونية، بقدر ما هناك سياسيون وأصحاب مصالح متصلون بالإسرائيليين.