لماذا سحْب "المشروع" أفضل من إقراره؟

حجم الخط

   مشروع القرار العربي الفلسطيني المُقدم إلى مجلس الأمن يفقد كلَّ معنى أو مغزى إن هو لم يشكل   تجاوزاً أو بديلاً سياسياً لعشرين عاماً ويزيد من الانخراط في مشروع التسوية الأميركي، أي قطعاً مع تعاقد التفاوض الثنائي برعاية أميركية، كتعاقد قام على مقاربة "الأرض مقابل السلام"، لكنه لم يسترجع أرضاً، ولا جلب سلاماً، ولا أوقف عدواناً أو تهويداً أو استيطاناً، ولا جنى ضغطاً أميركيا على حكومات الاحتلال المتعاقبة، بل صار غطاء لتمادي الأحزاب الصهيونية المتشبثة، وإن بصيغ مختلفة، باختزال الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية، وأدناها المكفول بقرارات دولية، في إقامة حكم ذاتي فلسطيني يحمل اسم دولة، ويضع حداً للصراع والمطالب، ما يعني تصفية القضية والحقوق والراوية الفلسطينية من جميع جوانبها.

   هنا، لأن أغلب الحكام العرب تخلوا عن القضية الفلسطينية كجوهر للصراع العربي الصهيوني الذي لن ينتهي من دون حلها، ولأن تبني الشروط الإسرائيلية، بل الصهيونية، ثابت من ثوابت السياسة الأميركية ومصالحها في المنطقة التي لا استقرار لها من دون إلزام إسرائيل بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، فقد كان من الطبيعي حدَّ البداهة أن تحرص الولايات المتحدة وحلفاؤها دولياً وإقليمياً، ضمنهم حكام عرب تخلوا عن أدنى واجبهم القومي تجاه "قضية العرب الأولى"، على استمرار "تعاقد مدريد- أوسلو"، بل وأن يمارسوا جميعاً، وكل منهم على طريقته، وبما يملك من تأثير ونفوذ، كل أشكال الضغط والتهديد والوعيد والابتزاز لمنع القطع الفلسطيني مع هذا التعاقد والتحلل من التزاماته، وإطلاق التوجهات السياسية والميدانية الفلسطينية على كل الخيارت، وأكثرها كارثية بالنسبة للولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل هو خيار إخراج ملف القضية الفلسطينية من القبضة الأميركية وإعادته إلى هيئة الأمم المتحدة، ومطالبتها بعقد مؤتمر دولي مستمر وكامل الصلاحيات لتنفيذ قراراتها ذات الصلة لا التفاوض عليها.

  وبالمثل، لأن إنهاء الانقسام وبناء الوحدة الوطنية، عامل القوة الفلسطينية الأساس، لم يُنجز، ليس بسبب الخلاف السياسي، فقط، بل بسبب الاختلاف الأيديولوجي والصراع على تمثيل الشعب الفلسطيني، أيضاً، فقد كان من الطبيعي حدَّ البداهة أيضاً بقاء الحركة الوطنية الفلسطينية على عجزها عن تلبية الحد الأدنى من استحقاقات ومقومات ومتطلبات خيار القطع مع تعاقد أوسلو والتزاماته، ومجابهة ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها "عجماً" وعرباً.

  لذلك كله لا عجب في إدخال تعديلات على مشروع القرار العربي الفلسطيني المُقدم إلى مجلس الأمن لدرجة تحويله من مشروع قرار يطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية ووضع جدول زمني، لا يتجاوز العامين، لإنهاء الاحتلال عن كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، كمهمة راهنة من مهام "البرنامج الوطني المرحلي" في "العودة وتقرير المصير والدولة" إلى مشروع قرار يؤكد على تعاقد أوسلو السياسي والتزاماته، من حيث: 

أولا: قبول مبدأ استئناف المفاوضات الثنائية برعاية أميركية لمدة عام آخر للتوصل إلى حل يجري التفاوض على آليات تطبيقه وإنهاء الاحتلال خلال عامين، وكأن الفلسطينيين سيجنون في هذا العام غير ما جنوا خلال عشرين عاما ويزيد من هذه المفاوضات العقيمة والعبثية، بل كأنه لا يوجد مخطط إسرائيلي معلن لزيادة عديد المستوطنين في الضفة الغربية إلى مليون مستوطن.

ثانياً: تثبيت بند "مبادرة السلام العربية" حول "إيجاد حل عادل ومُتفق عليه لقضية اللاجئين"، كبند ملتبس يحول الحق إلى قضية في نص قرار دولي، وكأن ذلك لا يساوي مجاراة للمطلب الإسرائيلي بشطب القرار 194 الذي يكفل حق اللاجئين الفلسطينيين في التعويض والعودة إلى ديارهم التي شردوا منها. هذا ناهيك عن إيراد بند ينص على "حل الدولتين" ينهي الصراع ويضع حداً للمطالب.

ثالثاً: تثبيت خطيئة القبول الرسمي الفلسطيني والعربي بمبدأ "تبادل الأراضي" في نص قرار دولي، وكأن ذلك لا يساوي مجاراة لتفسير إسرائيل للقرار 242: "الانسحاب من أراضٍ" وليس "الأراضي" التي احتلت في العام 1967.

رابعاً: قبول إيراد بند جديد ينص على أن "القدس عاصمة مشتركة للدولتين"، وكأن ذلك لا يعادل مجاراة للإصرار الإسرائيلي على بقاء القدس موحدة "عاصمة أبدية لإسرائيل"، مع استعداد للتخلي عن بعض ضواحيها ذات الكثافة السكانية من الفلسطينيين.

خامساً: اختزال خيار الدعوة إلى مؤتمر دولي في "الترحيب باقتراح عقد مؤتمر دولي يطلق المفاوضات"، وكأن ذلك ليس نسخة طبق الأصل عن مؤتمر مدريد، 1991، ومؤتمر أنابولس، 2008.

  بهذا كله لم نعد أمام مشروع يعيد تأكيد التمسك بتعاقد أوسلو، فقط، إنما أمام مشروع لتثبيت هذا التعاقد والتزاماته في نص قرار دولي يجرد الفلسطينيين من قرارات دولية سابقة تكفل الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية الفلسطينية، ويعطي حكومات الاحتلال، حتى قبل بدء التفاوض، نص قرار دولياً تعزز به مطالبها وشروطها الصهيونية التعجيزية.

   ما يعني أننا بتنا أمام مشروع من الأفضل سحبه بدل الإصرار عليه، بعد أن أفقدته التعديلات التي أجريت عليه كل مقومات أن يكون خطوة في سبيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، أو خطوة تؤسس لخيار سياسي بديل عن خيار تعاقد أوسلو، كتعاقد لم يعد التمسك به مجرد سيرٍ في خيار عبثي وعقيم، فقط، بل مدمر أيضاً، سواء من وجهة نظر الأطراف الفلسطينية التي عارضت الانخراط فيه، أو من وجهة نظر الأطراف التي أيدته، ببساطة لأنه أخذ من الفرص أكثر مما يجب، وطالت مدة  تجريبه أكثر من اللازم، وأقتنع بعقمه حتى أكثر القيادات الفلسطينية مرونه، بعد أن صارت مخاطر التشبث به تهدد جدياً القضية والحقوق الوطنية، وتضرب في العمق مكانة ودور منظمة التحرير الفلسطينية، كإطار وطني جامع، وممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وقائد لنضالاته، وصيغة فلسطينية للجبهة الوطنية في مرحلة تحرر وطني لم تنتهِ بعد، بل وثمة في راهن الهجوم السياسي والميداني الصهيوني، والتبني الأميركي لهذا الهجوم، والتخاذل الرسمي العربي عن مواجهته، ما يحمل على الاعتقاد، بل الجزم، بأن لا متسع  ولا مجال لتسوية سياسية للصراع تكفل تلبية، ولو الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. كيف لا، طالما أن الأحزاب الصهيونية لا تزال ترفض، خطاباً وممارسة، تحديد حدود إسرائيل، وتتشبث بتعريفها وتحديد وظائفها كـ"دولة قومية للشعب اليهودي"، ما يعني الإصرار على إسقاط حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض، وعلى تهديد وجود فلسطينيي 48 وحقوقهم الوطنية، وعلى التنكر لحق الشعب الفلسطيني عموماً في تقرير المصير وبناء دولة مستقلة، وطالما أن راهن الخلاف بين هذه الأحزاب ليس أكثر من خلاف بين أحزاب تجاهر بمطلب الاعتراف بـ(إسرائيل الكبرى)، وأحزاب تتبنى المطلب ذاته مع اختلاف حول الصيغ والوسائل والتوقيت، تفادياً لاتساع نطاق ومضامين عزلة إسرائيل، وما تواجهه من حملات مقاطعة شعبية عالمية، أوروبية خصوصاً، ومنعاً، وهنا الأهم، لدفع قيادة منظمة التحرير نحو تنفيذ تهديدها بإنهاء تعاقد أوسلو والتزاماته، والأمنية منها بالذات، وهو ما نجحت ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها في تحقيقه من خلال التعديلات التي أدخلت على مشروع القرار المُقدم لمجلس الأمن، لقاء تجديد الوعود الكاذبة بتحقيق "حل الدولتين"، والرهانات العبثية على نتائج انتخابات إسرائيل القادمة التي لا يتجاوز المغزى السياسي لتبكير إجرائها حدود ومضامين خلافات الأحزاب الصهيونية آنفة الذكر، ومثلها الخلافات العلنية بين رئيس وزراء الاحتلال نتتياهو ورؤساء أجهزته الأمنية الذين حملوه مسؤولية انفجار الهبة الشعبية المستمرة في مدن الضفة، والقدس خصوصاً، وتحميله-سابقاً- مسؤولية مخاطر دعوته إلى توجيه ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية، كضربة تتجاوز حدود قوة الجيش الإسرائيلي، كجيش انكشفت حدود قوته وقدرته على الردع والحسم، بدءاً من طرده من جنوب لبنان بلا قيد أو شرط على يد المقاومة اللبنانية، 2000، مروراً بإفشال عدوانه على لبنان، 2006، بل هزيمته باعتراف قادته ولجنة تحقيق رسمية، عرجاً على عجزه عن تحقيق نصر ميداني حاسم في ثلاث اعتداءات، بل حروب تدمير وإبادة، على قطاع غزة، وصولاً إلى ارتباكه أمام الهبة الشعبية المستمرة التي انطلقت من القدس تعلن هويتها. بكلمات سحب مشروع القرار أفضل من إقراره.