حكومة نتنياهو الجديدة والرد السياسي المفروض

حجم الخط

   أن يقبل حزب الليكود، صاحب الـ30 مقعد "كنيست"، تشكيل حكومة بأغلبية صوت واحد، وأن يخضع لابتزازات حلفائه، ويرشوهم بالمال والحقائب الوزارية، ذلك يعني أن محرك نتنياهو الأساس هو ضمان بقاء حكومته الثالثة على التوالي والرابعة بالإجمال حكومة استيطان وتهويد، حتى لو تطلب الأمر زيادة عدد الوزارات، وتبديد نحو 6 مليار شاقل من الموازنة العامة، وبقاء حكومته مهددة وعرضة للسقوط بصورة أسرع من حكوماته الثلاث السابقة التي لم يُكمل أي منها مدة الولاية القانونية.

   إذاً لا حاجة إلى عناء التفكير لاكتشاف أن نتنياهو أراد حكومة يخلو برنامجها، خلافاً لحكومات إسرائيل منذ إبرام اتفاق أوسلو، من بند الحل السياسي مع الفلسطينيين، الأمر الذي يحمل دلالة سياسية أساسية، جوهرها: إطلاق خيار "الحل الإقليمي" و"السلام الاقتصادي"، ما يعني إنهاءً عملياً، وإن غير معلن، لما يسمى "حل الدولتين"، وتصعيداً للسياسة الهجومية الشاملة لحكومات نتنياهو السابقة. أما أن يشكل نتنياهو حكومة تصفها حتى أوساط حزبية صهيونية بـ"الحكومة اليهودية العنصرية"، فيشي بما ينتظر الفلسطينيين وأرضهم، سواء في مناطق 48 أو مناطق 67، من تصعيد ميداني واستباحة شاملة وتطهير عرقي مُخطط، بما لا يترك متسعاً للحديث عن "الحل سياسي" والدولة المستقلة على حدود 67 وعاصمتها "القدس الشرقية". ولا عجب. فنتنياهو هذا أعلن عن ذلك صراحة بالقول: "إذا فزت في الانتخابات لن يكون هنالك دولة فلسطينية". هذا يعني أن لا جديد لدى حكومة إسرائيل الجديدة سوى ما تمليه من تجديد لسؤال ما العمل؟ بعد أن ثبت بصورة قاطعة، وعلى مدى عقود من التجريب أن حكومات إسرائيل كافة، (فما بالك بحكومة نتنياهو الجديدة)، في غير وارد تسوية سياسية للصراع على أساس مقاربة "مؤتمر مدريد": "الأرض مقابل السلام". 

   أما إعلان الإدارة الأميركية عزمها العمل مع حكومة نتنياهو الجديدة لاستئناف المفاوضات، فيؤكد من جديد، وبصورة قاطعة لا تقبل الشك أو التأويل، أن الولايات المتحدة ثابتة على مواقفها الداعمة، بالمعنى الإستراتيجي للكلمة، لحكومات إسرائيل، (أياً كان مستوى عنصريتها وعدوانيتها وتوسعيتها)، ما يثبت أن التباين القائم بين السياسة الإسرائيلية والسياسة الأميركية  إن هو إلا تباين تكتيكي لا إمكان لتوسيعه والرهان عليه، اللهم إلا إذا كان بلا معنى أن مشروع التسوية الأميركي الجاري لم يفضِ إلى تلبية ولو الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وهذا طبيعي، ما دام ميزان القوى مختلاً، بل وزاد اختلالاً على اختلال خلال السنوات الأربع الماضية، لدرجة أن تصبح القضية الفلسطينية في آخر سلم أولويات أغلب النظام الرسمي العربي الذي لم يعد يرى في إسرائيل عدواً ، بل وتتلاحق تصريحات قيادات إسرائيل حول تعاونها السري مع "أنظمة الاعتدال العربي" لمواجهة ما يسمى تهديدات إيران لـ"الأمن القومي العربي" الذي يُختزل في أمن هذه الأنظمة، وفي أمن الممالك والإمارات الخليجية النفطية منها بالذات. هذا بينما تصمت هذه الأنظمة صمت القبور ولا ترد ولو بكلمة واحدة على هذه التصريحات.

   لئن كانت هذه هي حال أغلب النظام العربي، فإن من الطبيعي ألا يتجاوز ردها على حكومة الاستيطان والتهويد الجديدة حدود مواقف الإدارة الأميركية التي لن تفعل في نهاية المطاف سوى دعوة القيادة الفلسطينية إلى عدم تفعيل قرارات المجلس المركزي المتعلقة بتدويل القضية الفلسطينية ووقف التنسيق الأمني ورفع شكاوى لمحكمة الجنايات الدولية، ما يعني عملياً الدعوة إلى استئناف المفاوضات الثنائية المباشرة وغير المشروطة، أي العودة إلى تجريب المُجرَّب مع حكومة تنعتها حتى أوساط سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية صهيونية معارضة بـ"دافن العملية السياسية مع الفلسطينيين"، بينما تنعتها الأحزاب الصهيونية التي شكلتها بـ"حكومة التمسك بجوهر الصهيونية، وأهداف إسرائيل الكبرى، وكامل حقوق الشعب اليهودي التاريخية في أرض آبائه وأجداده".

    إن كان لما تقدم من أهمية، فهي التشديد على ضرورة الاعتراف بما يكفي من الحزم بأن حكومة نتنياهو الجديدة ليست مجرد حكومة ترفض، ككل حكومات إسرائيل السابقة، الانسحاب إلى حدود 67 ووقْف التوسع الاستيطاني، وتتمسك بالقدس بشطريها (عاصمة أبدية لإسرائيل)، وتغلق الباب تماما أمام حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، بل هي، علاوة على كل ذلك، حكومة ترفض حتى خطة الأحزاب الصهيونية التي أبرمت اتفاق أوسلو بهدف مقايضة العودة وتقرير المصير بإقامة كيان فلسطيني وظيفي ملحق ومجرد من السلاح على أجزاء من أراضي مناطق 67. إذاً، نحن إزاء حكومة هي، من فرط عنصرية وعنجهية مكوناتها، ما زالت تؤمن بواقعية تحقيق هدف (إسرائيل اليهودية الكبرى). كيف لا؟ وهي الحكومة التي وصف رئيسها نتنياهو توقيع إسرائيل على اتفاق أوسلو بالخيانة، وقال في كتابه، (تحت الشمس)، "إن العرب يرضخون، وإن ما لا نحرزه منهم بالقوة نحرزه بالمزيد من القوة". بل وبلغ من الغلو والعنجهية والصلف درجة أن يشترط الإفراج عن الدفعة الرابعة من قدامى الأسرى باستمرار التفاوض لأجل التفاوض والاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي"، بينما بلغت عنصريته حدود ألا يتردد في استثارة وتأجيج أحط أشكال العصبية الدينية ضد فلسطينيي 48 الذين يُعتبرون نظرياً مواطنين إسرائيليين، بالقول: "أدعو المواطنين اليهود إلى التصويت بكثافة لحماية يهودية إسرائيل من هجوم العرب الكثيف وغير المسبوق على صناديق الاقتراع". هذا عدا عدم تردده في اسناد حقائب وزارية أساسية لأشخاص من ذوي السوابق الجنائية والسجل الحافل بالأفعال والأقوال العنصرية الداعية صراحة إلى ترحيل الفلسطينيين وقتل أطفالهم، علاوة على وصفهم بالأفاعي والعقارب. إن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدل على ما شهدته إسرائيل خلال العقود الماضية، وخلال سنوات حكومات نتنياهو بالذات، من تحولات بنيوية عمقت العنصرية والعدوانية والتوسع، لعل أخطرها انتقال مستوطني الضفة والقدس إلى مركز صناعة القرار الإسرائيلي بمؤسساته السياسة والعسكرية والأمنية والتشريعية والإدارية.           

   قصارى القول: ما دامت هذه هي مكونات وقناعات وأهداف وأطماع ومخططات حكومة إسرائيل الجديدة، بكل التحديات المترتبة على تشكيلها، وعلى الدعم الأميركي الإستراتيجي لها، وعلى التخلي الرسمي العربي عن مواجهتها، فإن الرد السياسي الفلسطيني عليها لن يجني غير الخيبة إن هو ظل يدور في إطار "التكتيكات المرنة" لتعديل الموقف الأميركي منها، بل وسيوفر طوق نجاة لهذه الحكومة الفاشية المهددة بالسقوط، عوض تجميع عوامل القوة الفلسطينية، واستعجال بناء إستراتيجية وطنية جديدة وموحدة للمواجهة، ومغادرة سياسة التفاوض والانقسام، كسياسة عبثية مدمرة طال أمدها، ولم تجْن، ولن تجني، سوى احباط الشعب الفلسطيني، وصب الحب، بمعزل عن النوايا والتبريرات، في طاحونة سياسات الاحتلال الهجومية المتصاعدة  لضرب البرنامج الوطني في "الدولة والعودة وتقرير المصير". هذه هي الشروط الوطنية المفروضة لمواجهة هذه الحكومة العنصرية الفاشية بنية وبرنامجاً، والقادرة وحدها على تفجير طاقات  الشعب الفلسطيني الذي يواجه محطة لعلها الأسوأ منذ النكبة، 1948، لكنه لم يُهزم، وظل صامداً يقاوم طيلة نحو قرنٍ من الصراع المفتوح، بل وصمد في العقدين الأخيرين رغم ما واجهه خلالهما تحديداً من تعاظمٍ لمستويات التواطؤ الدولي، والاختلال في ميزان القوى، والتخلي الرسمي العربي، عدا استفحال مأزق سياسة التفاوض والانقسام التي أدخلت مقاومته وهباته الجماهيرية التي لم تنقطع في إطار أجندات متباينة لدرجة الاحتراب.