المطلوب: تغيير السياسة لا الشخوص وجهة التفاوض

حجم الخط

    بعد اجتياح الاحتلال الشامل للضفة، (2002)، ثم فك ارتباطه أحادياً مع قطاع غزة، (2005)، لم يبق من أوسلو سوى أرباح الاحتلال واستباحة الشعب الفلسطيني. وبخفوت لهيب الانتفاضة "الثانية"، (2000-2004)، ثم وقوع الانقسام الداخلي المدمر، (2007)، رفعت حكومات الاحتلال، في ظل تغطية أميركية شاملة وحالة عربية لا تسر صديقاً، منسوب هجومها السياسي وغطرستها الميدانية، حيث تعاظمت عمليات الاستيطان وسلب الأرض وتهويد القدس وسرقة المياه والقتل والجرح والتنكيل بالأسرى وتدنيس المقدسات، وتقطيع الأوصال بجدار التوسع والضم وحواجز المس بالكرامة، وسن قوانين غاية في العنصرية، بلغت حدود تشريع إعدام الأسرى المضربين عن الطعام بـ"التغذية القسرية"، وحبس راشقي الحجارة من الأطفال لمدة 20 عاماً، وصولاً إلى تعاظم جرائم المستوطنين لدرجة إحراق المسنين والنساء والفتية، بل والرُّضع، أحياء. وكل ذلك علاوة على تشديد حصار قطاع غزة، ثم تدميره وإبادة وإصابة الآلاف من أبنائه، بثلاثة حروب عدوانية مبيتة.

   هنا، غيّب طرفا الانقسام لسنوات ما تلمسه الحالة الشعبية على جلدها وتدركه بحسها العفوي، وتملصا من مواجهة واقع الصراع ومقتضياته، أولها بناء سياسة وطنية موحَّدة تقطع مع أوسلو والتزاماته وتنهي الانقسام، الشرطان اللازمان لتوتير قوس الشعب وتعميق التناقض مع الاحتلال، بما هو تناقض أساس مع احتلال استيطاني عنصري فاشي يعمل بدأب، في السر والعلن، على تقويض الوطنية الفلسطينية وتفكيك مكوناتها وزرع الأجندات المتباينة لدرجة الاحتراب بداخلها. لذلك، كان من الطبيعي أن تتجاوز الحالة الشعبية نخبها القيادية، خصوصاً نخب طرفيْ الانقسام، وأن تشتق في الميدان بديلاً وطنياً، جوهره الوحدة والمقاومة. بل وكان من الطبيعي حدَّ البداهة أن يطفح كيل الشعب الفلسطيني، وأن يغلي مرجله، لدرجة تنذر بانفجار شامل ليس بوسع أحد التنبؤ بأشكاله أو بسببه المباشر أو بلحظة حدوثه، لكن مؤشراته بادية فيما نشهده من هبات شعبية لم تنقطع، وعمليات مقاومة دفاعية، (أغلبها عفوي بوسائل غير مألوفة)، ونضالات بطولية يخوضها الأسرى بعنفوان وبلا توقف، ما يعني أننا أمام إرهاصات مقاومة شعبية ممتدة يكبح جماح بلوغها الخطوات المتبادلة لتعميق الانقسام، وبالتالي تعميق المأزق الوطني الذي سيزيده استعصاء على استعصاء قراران، الأول: قرار قيادة منظمة التحرير دعوة المجلس الوطني القائم إلى اجتماع استثنائي، (بمن حضر)، بهدف إجراء تغييرات لشخوص اللجنة التنفيذية مع التشبث بالتفاوض المباشر تحت الرعاية الأميركية لتحصيل دولة على حدود 67، لم تأتِ طيلة عشرين عاما ويزيد من مفاوضات أوسلو. أما القرار الثاني، فهو قرار قيادة "حماس"، بفتح قناة للمفاوضات مع حكومة الاحتلال، تتوسط فيها تركيا وقطر وجهات دولية وإقليمية أخرى، وينسقها، توني بلير إياه: شريك واشنطن في قرار احتلال العراق وتدميره، ومندوبها، (حتى استقالته مؤخراً)، بمسمى منسق "الرباعية الدولية"، لتمرير الشروط التفاوضية لحكومات الاحتلال، منها شرط "إرجاء البحث في مصير غزة إلى حين"، بكلمات الرئيس الأميركي، أوباما.

   وهذه، بكل المعاني، نتيجة كارثية لسلوك سياسي نخبوي فئوي انقسامي يدير الظهر لحس شعب علمته الخبرة التاريخية أن تغييب التناقض الرئيسي مع الاحتلال مَهلكة، ولا يكف عن إعطاء الاشارات في الميدان إلى طريق الخروج من المأزق الوطني، غير آبه لما يجتره طرفا الانقسام من ذرائع ومبررات لتأبيد سلوك سياسي اثبت الواقع عياناً أنه لن يأتي بأدنى الحقوق الوطنية، حتى بتنا أمام نخب ترى الاحتلال ينهش الجسد الفلسطيني، لكنها ما زالت تقص اثره في دروب غير درب الشعب لإنهائه.

   هنا، كما لم تَعُز قيادة منظمة التحرير الحجج للولوج إلى دوامة أوسلو، لن تعوز قيادة "حماس" الحجج لتسويق استدارتها نحو البحث عن مخرج لأزمتها الخاصة، سواء بزعم أنها تسعى إلى تثبيت "التهدئة" مع الاحتلال مقابل رفع الحصار الخانق عن قطاع غزة، وكأن لا علاقة لذلك بمسعاها لتثبيت سيطرتها عليه، أو بزعم أنها، بكلمات نائب رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، "لا تقبل إقامة "دولة في غزة"، لأن إستراتيجيتها هي تحرير كل فلسطين، وليس 2% من مساحتها"، وكأنه يمكن لحسن النوايا أن تعوض اختلال ميزان القوى، أو أن تدرأ مخاطر خطة الاحتلال، برعاية واشنطن، لفصل قطاع غزة عن مجمل عناوين القضية الفلسطينية، وليس عن الضفة فقط، أو بزعم أنها لا تفاوض الاحتلال مباشرة وتحت رعاية أميركية، وكأنه يمكن لتوني بلير أو غيره أن يتحرك في الملف الفلسطيني خارج علم واشنطن وتوجيهاتها.

   أما الزعم بأن "الممر البحري" الموعود انجاز وطني كبير، فينسفه من الأساس أن حكومات الاحتلال تملصت بذرائع شتى، وطيلة عشرين عاماً ويزيد من مفاوضات أوسلو، من تنفيذ بند "إيجاد ممر بري"، أو ما سمي "الممر الآمن"، بين الضفة وقطاع غزة، ما يعكس نواياها الحقيقية في تحويل الفصل الجغرافي إلى فصل مجتمعي وسياسي، الفكرة التي داعبت مخيلة شارون عندما قرر فك الارتباط الأحادي، عسكرياً واستيطانياً، مع قطاع غزة، وجاء الانقسام الداخلي، بمعزل عن النوايا، ليصب الحب في طاحونة هذه الفكرة التي تتجدد محاولات تحويلها إلى واقع من خلال ما يجري تداوله حول أن حكومة الاحتلال وقيادة "حماس" توصلتا، في تفاوضهما غير المباشر، إلى تفاهم لإقامة ممر بحري بين قبرص التركية وقطاع غزة، وهو الممر الذي سيكون، في حال إقامته، وأياً كانت نوايا قيادة "حماس"، تحويلاً للانقسام إلى انفصال، وبديلاً لمعبر رفح بوابة القطاع على العرب، ما يعني أننا أمام خيار إقليمي سياسي تقوده تركيا، ويتوسل حاجة قطاع غزة الملحة إلى فك الحصار وإعادة الإعمار، ويتذرع بما تقوم به قيادة منظمة التحرير من خطوات إجرائية داخلية عقيمة لمعالجة مأزق وطني مستعصٍ. هذا ناهيك عن أن هذا الممر البحري، إن قام، لن يكون سوى اعادة هيكلة وترتيب للحصار، مقابل ثمن سياسي وأمني كبير، جوهره، التزام قيادة "حماس" بـ"تهدئة" طويلة الأمد وقابلة للتمديد مع الاحتلال، بما يضمن أمنه، وأمن ما يسمى "مستوطنات غلاف غزة" بالذات، فيما من المؤكد ألا تلتزم  حكومات الاحتلال بهذه التهدئة لألف ذريعة وذريعة، وسوف تخرقها إذا نفذت فصائل غير "حماس" عمليات من داخل قطاع غزة، أو حتى إذا نفذت "حماس" عمليات من خارجه، بما يذكِّر بذريعة اختطاف المستوطنين الثلاثة لشن حرب الإبادة والتدمير الأخيرة على قطاع غزة.

   بذلك، وعليه تصبح فكرة "الممر البحري" مجرد مفتاح بديل لمفتاح اندماج قطاع غزة الوطني والقومي، الأمر الذي يثير القلق، بل القلق الكبير، ويسوغ مقارنة مفاوضات صفقة "التهدئة" بين قيادة "حماس" وحكومة الاحتلال بمفاوضات صفقة أوسلو، بل ويسوغ وصفها بالأخطر منها، إذ يعلم الراسخون في علم التفاوض كم سيكون ثمن هذه الصفقة، إن تمت، على مستوى الحقوق الوطنية، بمعزل عن النوايا والتبريرات.

   قصارى القول، وبإيجاز وتكثيف شديدين، لن ينتشل الشعب الفلسطيني وقضيته من مأزق الحالة الوطنية الراهنة، إجراءات تتعلق بتغيير الشخوص، ولا حفر أنفاق سياسية بحثاً عن جهة تفاوض أخرى موازية، لأن المقاربتيْن ليستا سوى تملص متبادل وهروب من تنفيذ بنود الاستحقاق الوطني المُتفق عليه في القاهرة، بدءاً بتفعيل اجتماعات الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، لتطبيق ما اتفق عليه من تجديد للشرعيات والمرجعيات الوطنية العامة، وإعادة بناء وتوحيد الحركة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، بدءاً بتشكيل مجلس وطني جديد تنبثق عنه مؤسسات المنظمة التنفيذية وأطرها الشعبية واتحادتها الجماهيرية، بما يعيدها قائداً وطنياً فعلياً لنضالات الشعب بمكوناته وفئاته المختلفة. فالمطلوب، بل المفروض، هو تغيير السياسة بشقيها الخارجي، (إدارة الصراع مع الاحتلال)، والداخلي، (إدارة التناقضات الداخلية الثانوية)، لا البحث عن طرق التفافية متبادلة في مرحلة تحرر وطني لم تُنجز مهامها بعد، وفي محطة عنوانها الصمود. فالقادم من المعارك أقسى ويتطلب حشد الطاقات والإمكانات الوطنية كلها، فيما الشعب الفلسطيني يقدم يومياً الإشارات والإرهاصات المختلفة التي تعبر عن استعداده للعطاء رغم مجافاة الظروف، دولياً وإقليمياً وقومياً ووطنياً. فـ"هنا الوردة، فلنرقص هنا"، بكلمات لينين.