«الهبّة» ضد الاحتلال وانحياز واشنطن

حجم الخط

تستطيع الإدارة الأمريكية، بقيادة أوباما، أن تدين «عنف الفلسطينيين»، وأن تعلن دعمها الكامل ل«حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها»، وأن تؤكد أن الحفاظ على تفوق «إسرائيل» هو أولى أولويات سياستها الخارجية. وتستطيع إعلان أن تحقيق «حل الدولتين» غير ممكن خلال المدة المتبقية من ولايتها الثانية، كأن أحداً ينسى أنها «لحست» وعوداً أطلقتها قبل سبع سنوات، لتحقيقه، حين تراجعت، حتى عن دعوتها لتجميد الاستيطان، بل وصرحت مراراً بأن «إسرائيل» «دولة يهودية»، بينما لم تدع، ولو لمرة واحدة، لانسحاب الاحتلال من كامل «أراضي 67»، ولم تستجب لمطلب المفاوض الفلسطيني اعتبار «القدس الشرقية» عاصمة لدولة فلسطين، ولا حتى لمطلبه اعتبار منطقة الأغوار جزءاً من هذه الدولة. وكل ذلك انسجاماً مع التحالف الاستراتيجي الأمريكي-الصهيوني، وتأكيداً على أن ما يهم إدارة أوباما، كما الإدارات الأمريكية السابقة، هو استمرار المفاوضات التي لم يبق منها سوى أرباح الاحتلال وتوسيعه وتعميقه، عمودياً وأفقياً.

وكل ذلك برغم معرفة أركان هذه الإدارة أنه بفشل السياسة تتدخل وسائل أخرى، وأنه «تبعاً لمستوى الصراع ترتقي الوسائل العنيفة»، كقاعدتين أو قانونين لأي صراع، وبهما يمكن سبر غور أسباب ما يخوضه الشعب الفلسطيني، منذ مطلع الشهر الماضي، من مقاومة دفاعية، سلاحها الأساس الحجارة والسكين ولماماً إطلاق النار، ضد احتلال استيطاني عنصري فاشي مدجج بالسلاح من رأسه حتى أخمص قدميه، ويستبيح، برعاية أمريكية، فلسطين الأرض والوطن والشعب والحقوق والموارد والأمن والكرامة. وبهما، أيضاً، يمكن تفسير قابلية هذه الهبّة الشعبية للاستمرار والتحول إلى انتفاضة شعبية عارمة ممتدة متعددة الأشكال والوسائل، بل وقابليتها للتجدد في حال تم إجهاضها والالتفاف عليها بتقزيم نتائجها السياسية، أو إخمادها بالذبح العسكري. وهذا ما تتجاهل إدارة أوباما دلالاته السياسية، اتصالاً بالمصالح الأمريكية العليا في المنطقة، وأولاها الحفاظ على تفوق «إسرائيل»، ربيبتها وذراعها القوية في المنطقة.

إن الشعب الفلسطيني الذي يخوض صراعاً شاملاً ومفتوحاً مع الكيان الصهيوني، كان لا بد أن يستعيد زمام المبادرة لإعادة فلسطين، الوطن والشعب والقضية، إلى دائرة الضوء، وانتشالها من التعتيم الذي تفرضه عليها واشنطن، بقيادة أوباما، داخل هيئة الأمم وما يسمى المجتمع الدولي. ما يعني أن انحياز واشنطن المطلق ل«إسرائيل» بات مسلمة من مسلمات التفكير الشعبي الفلسطيني. وبالتالي، فإن الشعب الفلسطيني الذي، يخرج، من جديد، إلى ميادين الاشتباك لمواجهة الاحتلال، إنما يخرج وفي وعيه، أيضاً، عداء واشنطن الشامل لقضيته العادلة وحقوقه المشروعة. وبالنتيجة فإن تحصيل الحاصل من الموقف الشعبي الفلسطيني تجاه سياسة إدارة أوباما، وتدخلها في ما يدور في الميدان، هو رفض الارتهان لها والرهان عليها، أو الرهان على تجديد دعوات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لاستصدار قرار يحدد سقفاً زمنياً لإنهاء الاحتلال أو توفير نظام حماية دولية للشعب الفلسطيني، إن هي لم تكن، (الدعوات)، في إطار عمل سياسي - دبلوماسي مكمل ولا يتعارض مع خيار العمل على إدامة الهبة الشعبية وتصعيدها لإنهاء الاحتلال. فخيار تدويل القضية الفلسطينية طريق طويل، وموقف الكيان منه..لا.. عريضة قاطعة مانعة. أما مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، فأكثر صداقة للكيان الصهيوني من أوباما الذي تقول السلطات الرسمية «الإسرائيلية: «إنه أعطى «إسرائيل» أكثر من أي رئيس أمريكي سابق». أما مرشح الحزب الجمهوري فهو وصفة حرب في الإقليم ويتناغم أكثر من السياسات العدوانية التوسعية للكيان في المنطقة. وكل ذلك من دون أن ننسى حقيقة أن هيئة الأمم ما زالت أداة سياسية لسيطرة الولايات المتحدة على العالم، فيما لا يزال صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، أداة سيطرتها الاقتصادية.

لقد استعاد الشعب الفلسطيني زمام المبادرة، ففاجأ حكومة الكيان الفاشية المتغطرسة، وأربك حساباتها، وهز كامل منظومتها الفكرية والسياسية والعسكرية والأمنية والاستيطانية والمعنوية. لذلك لا ينبغي التسرع في الاستثمار السياسي لهذا الحدث النوعي الكبير الذي سيكون ما قبله غير ما بعده، سواء على صعيد التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني، أو على صعيد التناقضات الثانوية داخل الصف الوطني الفلسطيني. فالنضال «قلعة لا تقتحم إلا من داخلها». والشعب الفلسطيني الذي يواجه العدو الصهيوني بوحدة ميدانية، يحتاج إلى «قيادة وطنية موحدة» موثوقة، ترفع هدف إنهاء الاحتلال، كهدف سياسي وطني ناظم، لإدامة الفعل الانتفاضي وتطويره والحفاظ، ما أمكن، على طابعه الشعبي، لدرء خطر الذبح العسكري، وحمايته من الإجهاض السياسي الذي تقوده الإدارة الأمريكية.

لذلك لا ينبغي أن ينسى أحد في تعامله مع الهبة الشعبية الجارية درسين أساسيين، الأول: بخفوت لهيب الانتفاضة «الثانية» بعد اجتياح الاحتلال الشامل للضفة، ثم «فك الارتباط» الأحادي مع قطاع غزة، عادت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لتجريب خيار أوسلو الفاشل والمدمر، وارتقى التنافس الفئوي بينها وبين قيادة «حماس» إلى احتراب دموي وانقسام سياسي جغرافي كارثي. وهو ما شجع قادة الاحتلال على محاولة تكريس وتعميق ما انتجه أوسلو والانقسام من ديناميكية تفكيكية اختزالية لخريطة الوطن والشعب والحقوق والأهداف والتطلعات والرواية الفلسطينية. أما الدرس الثاني فهو: بتشكيل الصهيوني الليكودي المتغطرس، نتنياهو، حكوماته الائتلافية مع حزب الفاشية الصهيونية القومية، (ليبرمان)، وحزب الفاشية الصهيونية الدينية، (بينت)، تجاوزت فاشية العدو كل معقول. فاستباحة الاحتلال للشعب الفلسطيني باتت شاملة. والحروب على قطاع غزة المحاصر اتخذت طابع الإبادة الجماعية والتدمير الشامل. وعمليات الاستيطان والتهويد والتفريغ في الضفة، وقلبها القدس، تجاوزت كل الحدود. والقوانين العنصرية ضد فلسطينيي 48 صارت بالعشرات. وانتهاكات الأقصى تعاظمت لحسم معركة القدس. والتنكيل بالأسرى لم يتوقف. وعمليات القتل والجرح والاعتقال والاقتحام وتدمير البيوت والحصار وتقطيع الأوصال، صارت مشهداً يومياً. أما عصابات المستوطنين، الفالتة من كل عقال، فصارت جيشاً ثانياً للاحتلال، وبلغت جرائمها حدود حرق الفتية والرضع أحياء. وبداهة أنه لا ينبغي تناسي أن هذه الاستباحة الميدانية، تحركها، بتغطية من واشنطن، سياسة «إسرائيلية» هجومية متغطرسة تستهدف تحقيق المزيد من الأهداف الصهيونية، خصوصاً الاعتراف ب«إسرائيل» «دولة للشعب اليهودي»، ما يهدد بشطب حق العودة رسمياً، وطرد فلسطينيي 48، وشطب الرواية الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وتصفية قضيته وحقوقه من جميع جوانبها، بما لا يترك متسعاً لأية أوهام تسووية للصراع.