غسان في ذكرى الولادة وذكرى الغياب.. ثمانيني على شرفة في عكا

حجم الخط

لن أكتب عن الذكرى الرابعة والأربعين لاستشهاد غسان، بل سأكتب عن غسان الثمانيني، يجلس على شرفة بيته في عكا، يدخن ويشرب وليس مصابا بالسكر.

أتخيل غسان وقد جاوز الثمانين، وقد جلل البياض شعره وشاربيه البديعين، وآثار مرض طويل ومنهزم تشي بها آثار الحقن على يديه، يجلس إلى طاولة في شرفة بيت في الحازمية، يراجع المسودة الأخيرة لمذكراته التي ستنشر قريبا، وجميعنا متشوق لما يقوله عن الـ 44 سنة الأخيرة.

أتخيل غسان في الثمانين، شيخا جليلا تظله أناقة لطيفة في مقر الهدف في اليرموك أو بيروت، يطفئ شمعته الثمانين، يحيط به رفاقه وأصدقاءه وتلاميذه ومريديه، يقف وسط الصالة الكبيرة مع جورج حبش وأبو علي مصطفى وأبو ماهر اليماني وباسل الكبيسي ووديع حداد ونخبة النخبة ممن هم عصبة شريفة نظيفة ما كان غسان ليكون لولاها على ما أزعم،  يتأمل على الجدار لوحة مكبرة لتخطيطة فلسطين التي رسمها بداعي الملل في اجتماع حزبي قديم، يتأمل اللوحة ويهمس لنفسه: لقد كانت تستحق، كل لحظة وكل يوم وكل حقنة أنسولين!

ولكنهم قتلوه، ولم يسمحوا لنا بالاحتفال بثمانينيته، قتلوا الدليل المباشر على قدرة التاريخ أن يكون سخيفا، وتحريفيا، قادرا على تغيير مسارات البشر وقصص حياتهم بتدخله الفج والجنوني، قتلوا غسان، الدليل على قدرة الإنسان على ضخ الحياة في رماد الحريق، قتلوه فبقي في السادسة والثلاثين لايعبرها إلا قليلا.

كثيرا ما سمعت أو قرأت أشياء مثل لو كان غسان حيا ماذا كان سيقول عن هذه المسألة أو تلك؟ تقول حكمة التاريخ ان ابن السادسة والثلاثين قال كل ما يريده قبل أن يرحل، أو ما كان ممكنا أن يقوله، وقد ترك لنا على كل حال نبوءته الصارمة وإيمانه المتقد وأشياء أخرى نكتشفها على مهل.

في الملمات والأزمنة الصعبة تهرع الشعوب إلى أيقوناتها وحكاياتها البطولية القديمة تستمد منها شعاع نور وأمل خلاص، وليس لهذا فقط علينا أن نستعيد غسان، الذي كان خلاصة من الأمل والتفاؤل الثوري وروح القتال، فهو يعلم ونحن نعلم أن الأزمنة الصعبة ما زالت مستمرة، وأننا ندور في حلقة زمنية مكررة، سبق له أن خبرها وحذرنا منها داعيا إيانا إلى البحث عن المفاتيح رسم لنا الخرائط وأعطانا ما يلزم  قبل أن تنفجر تلك السيارة في الحازمية، والأهم انه قال لنا أن هذه الثورة يجب أن تستمر، فثمة شرفات كثيرة في عكا تنتظر أصحابها..فلماذا؟

في نشيد الثورة المستمرة، لم يكن غسان بيتا معزولاً، أو نغمة عابرة، كان الكاتب والعازف على حد سواء، وهذا ما جعل منه الدرس والمعلم في آن معا، ولعله كلام فائض عن الحاجة التذكير بمن هو غسان في تاريخ الإبداع والأدب، غسان الأديب والسياسي والقائد الأيدلوجي، الذي جعل للكتابة معنى آخر عندما دمجها في مشط رصاص بيد مقاتل صاعد إلى شرفة الشمس، أولئك الذين قال غسان ان كلماته لا قيمة لها أمام إشراقهم، وهذا ما جعل غسان أكثر من مجرد ثائر، بل ثورة في الثورة، بمعنى قدرته الهائلة على الاندماج النهائي في الحركة الثورية وبذات الوقت الاستمرار في النقد والتفحص ونقض البديهيات وإعادة صياغة الرؤى والمسلمات، في سعيه لثورة جميلة كاملة، كان ينهض بكتابة جميلة وكاملة، وكأنهما سواء.

في كتاباته السياسية والأيدلوجية المعاد نشرها حديثا، ومنها ما يقدم للجمهور لأول مرة، يظهر لنا غسان العصي على الموت، حكمة الثمانين بالضبط هي ما أشير له هنا، ومادام هذا فكأن هذه النصوص تقول لنا: وما حاجتكم لغسان الثمانيني؟ حكمة التاريخ حفظت لنا تلك الذخيرة في كبسولة زمنية، لا نعرف سببا لإهمالها كل هذا الوقت، لتعيد اكتشاف غسان كنفاني السياسي والمفكر الثوري والاهم إعادة اكتشاف نبوءته العظيمة للأزمنة القادمة.

وبعد أربعة وأربعين عاما على الغياب ما كتبه ما يزال صحيحا وحارقا ومازالت اجتهاداته تستحق التوقف والتأمل في استقامتها الفكرية والأخلاقية، ونبوئيتها على حد سواء. هو الذي لم يترك موضوعا لم يتناوله، في الأدب والنقد والثقافة والسياسة وحرب العصابات ومناهضة التطبيع والأيدلوجيا النقدية.

كل هذا ونفاجأ أن هذا الرجل لم يُقرأ كما يجب، وأن أجيالا لم تقرأ سوى نزر يسير مما كتبه وبقيت كنوزه السياسية والفكرية في زاوية الإهمال، والسؤال: هل كان هذا بفعل فاعل أم أن مكر التاريخ اقتضى أن غسان السياسي هُزم في معركة الشهرة أمام غسان الروائي، رغم أن غسان يقول أن ما يريد قوله ظهر على لسان شخصياته الأدبية أفضل مما هو في المقالات، رغم ذلك أجد نفسي اليوم محرضا أكثر على قراءة غسان، ليس الأديب بل السياسي والمفكر، لأنه من المؤكد أن هذا سيفتح أفقا جديدا لقراءة جديدة في أدبه وسيوفر شرفة أخرى للنظر إلى هذا الإبداع المركب وشديد التعقيد، ولكن ببساطة دالية تتبرعم بصبر في حديقة منزل ريفي.