تقاسيم عام مضى لأيام عام يهِلُّ على مقام صَبا الوطن!

حجم الخط

قال حنظلة: سبعون عاما... وأنا أودع وأنتظر... الليلة روحي تجتاز ابعادها... فاعزف لي ما تيسر من تقاسيم على مقام صَبا الوطن... اعزف.. اعزف ولكن بطريقة تناسب الليلة روحي.

أسند الرجل رأسه المثقل بالشجن على كفه، أطرق، تذكر، فكر عميقا، سافرت عيناه في الأفق الأعلى للمنحدرات، وعلى وهج سيجارة عابرة للوعي والوقت ومسافات الليل تناول ناي روحه وراح... يعزف: 

(1) وطني: ولادة الاحتمالات، تجليات اللحظة في صيرورة الزمان وتفاصيل المكان، بشرى الغيم المسافر على دروب السماء القصيّة، أن يأتي المطر قبل موعده، أو في موعده... أو ... أو... ربما بعد موعده، بهجة السير على تخوم المواسم القادمة، فرضية الربيع الآتي، تواطؤ الوقت في امتداد الليل المقمر، غريزة الدفئ في المساءات الباردة، صُدفة البدايات وضرورة الصدفة في مدى الأمنيات، اكتشاف أن نكون في لحظة فاصلة... و... إغراء شجرة للجبل المقيم بقبلة عاجلة. 

(2) وطني: معكوس العلاقة بين الحرية والقيد الثقيل، بندقية المقاوم وبندقية القاتل، أصل الفكرة العالية ووهم السُّلطة الهابطة، بهاء الدم على دروب الأرض وبرميل النفط الملوث بعار الذل، دفء الخبز الأول ووحشة الفقر المقيم، القدم العارية الشريفة والحذاء الدنئ، كتاب العقل المضئ وإسفاف الجهل المعتم، قبر جندي مجهول وقصر لصٍّ مشهور، تدفق الحب ووهم الحب، قضبان زنزانة تحاصر الأمل وصرخة فرح لطفل يولد من بعيد.

(3) وطني: عناد حنظلة الراكض عند حافة الأبيض والأسود وسماسرة الألوان بلا معنى، موهبة النسيان وجدل ذاكرة لاجئ فلسطيني، ألم الفقد المفاجئ وحدس الفرح المؤجل، بوصلة واضحة المعنى وخداع السراب للعين. 

(4) وطني: احتمالات التناغم العفوي في التناقض المدهش، غواية السفوح الدافئة وخافية الرحيل في المنافي الباردة، غواية الاقتراب وحذر المسافات الملتبسة، السير على عجل في دروب المدن المغلقة والسير على مهل في ظلال الزيتون الوفي، كسل اللحظة الخامدة وجموح الوعي للإنعتاق، فكرة واضحة على أهداب غيمة رمادية، حنين الدروب للخطوات الواثقة وافتراقها قبل خط النهاية الفارغ، ومضة البرق في الأفق المثقل بالوعود، موهبة انتظار الأرض لما سينهض من أعماقها، تردد التوقعات في المسافات ما بين الأقرب والأبعد في المعاني، محطات الوداع بلا أمل ومحطات التهيؤ لأشرعة مفاجئة، حنين المحاق لاستدارة البدر بين النجوم الراحلة، الاكتمال الشاهق في النقيض، خافية المعلوم في المجهول، التردد بين يقين الحدس ومراوغة الحواس، سطوة الواقع وظلال الموازي المشتهى، الوطن... سخرية الممكن من المستحيل. 

(5) وطني: شمس تراقص البراري وليل يراوغ الثعالب، هو المعلن في القول والمضمر في تضاريس المكان، لعبة المساحات المشغولة بالمتاح من الأعشاب وشجن الظلال، شوق المعنى المنتظر في قصيدة شاردة، الحنين للسفر أمام مواقد الليل، حدس الاسترخاء في حضن الأرض، رعشة قبلة في مهب الريح العابرة، ورغبة الضياع في فوضى الينابيع الدافئة. 

(6) وطني: وعد المحراث الباسل للأرض العنيدة، وعد عناة بغيمة ماطرة للبذار ينتظر في التربة الدافئة، وعد بعل للمناجل بالمواسم القادمة، رائحة البيادر العامرة، صعود الدَّوالي على سلّمٍ للسماء، إشراق الزيتون في مطر المساء، تحليق صقر شجاع بعيدا عن هشاشة السِّرب، وعودة عصفورٍ هشٍّ إليه.

(7) وطني: هو المسافة ما بين الواقعي في الحاضر والافتراضي في القادم، بين وعد الغيم وحيث ينهمر المطر في اللحظة، وطني يقيم بين ما هو كائن وما لا يكون، بين شهوة الوعي وفرضية الفكرة العابرة، توقعات الصباح وحقيقة الليل الباردة، مدارات الخيال المطلق وحقيقة التفاصيل النسبية .

(8) وطني: وهم الحضور المؤلم وحقيقة الغياب الجميل، وهم القول العالي وحقيقة الفعل الهابط، ركض الوقت في اتجاه واحد، نافذة مشرعة على صباح مدينة غافية، دفء الشاي على شرفة عالية.

(9) وطني: أبجدية الصمت أمام الحدود، سفر سيجارة في غبش العتمة، قهوة الفجر في مواسم هجرة العابرين إلى أقدارهم في اتجاه معاكس. 

(10) وطني: حنّون بريّ يغفو على هوامش السفوح المنسية، همس القصب على ضفاف الأنهر الراحلة نحو أقدراها، نداء الأرض للضوء، الرقص مع أوراق الخريف العابثة على هوامش الأرصفة، غفوة البراعم على الأشجارالعارية، رغبة اليدين في الاقتراب وجفول الحمام في اللحظة الفاصلة.

(11) وطني: شجن الموج يراقص شراعا يعاند العاصفة. 

(12) وطني: تجاوز الحياد أمام الشهيد، أمام الأسير، أمام الناس، مع المواقف، الأشهر، الأيام، الأغاني، القصائد، أمام الممكن ونقيضه، أمام اللحظة ومعكوسها، أمام الحقيقة وظلها.

(13) وطني: إبداع الخلق في البدايات وفرح النهايات.

(14) وطني... هو... مطلق الاحتمالات في المتاح... وطني كل ما كان.... أما ما سيكون فهو مجرد تقاسيم ناي منفرد على مقام الصَّبا ومقام هذا الوطن المطلق لا أكثر!. 

(15) وطني : قبل وبعد هو الأجمل حتى لو كان تحت الاحتلال.

(16) وتبقى الأرض تدور!. 

قال الرجل ذلك ثم نهض، رحل في ملامح المنحدرات وهي تذوب في ظلال الغروب الراعشة، وعلى مهل مضى حتى لم يعد يُرى سوى توهج زهرة سيجارة راحت تغيب في أسطورة الليل...