تحرّشٌ متعمَّد بذاكرة الأسر ..

حجم الخط
رشا داود لقائي الأول به كان " لقاء غير متوقع مع الوطن " احتضنت فيه أبي المُبعَد عن الوطن تاركاً أبناءه هناك ليعانق أبناءه في المنفى هنا .. و الرفيق القادم من جبهة القتال في الزنزانة إلى جبهة للقتال في الغربة هنا .. و المناضل الذي أنهى لتوه جولةً من معركته تُوِّجت بالنصر و إن لم يكن كاملاً .. فرحتُ أتجول في شوارع ذاكرته مستنشقةً روائح البيارات و الزعتر ، معانقةً السنابل المنحنية لثقل حِملها ، مُتَقزِّمةً أمام شموخ جبل النار الذي أنجبه .. مغلقة باب تساؤلاتي الطفولية عن عمرٍ سلبته إياه الزنزانة لرغبتي في احتضان شمس الوطن التي عانقت جسده لا الزنزانة التي استهلكت أعوام شبابه .. و في غمار المعركة التي يخوضها بواسلنا الأسرى و التي تضعني و أبناء شعبي و المناصرين للحق و العدل و الانسان في مواجهةٍ أليمةٍ مع أنفسنا و انسانيتنا المقصّرة بلا حدود في حق من ناضلوا ليجعلوا الحرية طبقاً دائم الحضور على مائدة الوطن .. كان لابد من طرق أبواب ذاكرته في الأسر و التحرش بها عمداً بكل ما سيرافق التحرش من ألمٍ و أمل .. رفضٍ و صمود. لكنه في هذه المرة .. هو هنا .. و رفاقه جائعون هناك .. و هو لا يتمنى إلا أن يكون هناك ، لا في الزنزانة التي ينتظر يوم خوائها من كل الأبطال يافعين كانوا أم رجال .. فتيات أم نساء ، بل هناك في فلسطين على مقربةٍ من زنازينهم يخوض الحرب لأجلهم من أمام القضبان لا من خلفها كما جرت العادة .. يقول بعينين تبرقان أملاً و إصراراً " سننتصر .. ستنتصر إرادة الأسرى " كما انتصر خضر عدنان و هناء شلبي في انتزاع حريتهما من براثن العدو .. ففي يوم الأسير وُلِدَت بعد طول معاناة الصرخة الأولى وبدأت بعد طول انتظار الخطوة الأولى لتحقيق المكاسب للحركة الأسيرة و التي هي ليست مكاسب بقدر كونها حد أدنى من حقوقهم الانسانية سلبتهم إياها سلطة احتلال لا يعرف للانسانية معنى و لا يحترم مواثيقه الدولية بصونها لاسيما في ظل تصعيد هجمة إدارة السجون ضدهم عقب كل صفقة تبادل .. مستفيدين من تجربتنا الفاشلة في اضراب 2004 و الذي برغم اخفاقه كان نقلة نوعية و حدثاً مفصلياً في التاريخ النضالي للأسرى متجنبين أسباب إخفاقه و غياب التنظيم و القيادة رغم الارتفاع الكبير في عدد المشاركين فيه بتشكيل لجنة قيادية للأسرى في كل اضراب تتولى الحوار مع إدارة السجون .. " ستنتصر الحركة الأسيرة " لأنها استطاعت أن تقلب الطاولة في وجه العدو و فرضت عليه واقعاً لم يستطع عبر الزمن إلا الرضوخ إليه و لتؤكد من جديد على فعالية الإضراب كسلاح لا تمتلك غيره للدفاع عن حقوقها رغم اعتقاد البعض أنه بات موضة قديمة لا تليق بوقتنا الراهن ، ففي بداية الاعتقالات مع بداية العمل الوطني في الستينات عانى الأسرى الذين كانوا أفراداً لم تزل تنظيماتهم في حالة تبلور من عنفٍ لا مثيل له أدى لسقوط عدد لا يستهان به من الشهداء في صفوف الأسرى المضربين ليكون عبد القادر أبو الفحم عام 1970 أول من يمتزج دمه برطوبة الزنزانة و ليعلو صوت استشهاده على صمت المعتقل .. و ليستمر الأسرى نبراس مسيرة نضالنا .. و اليوم نشهد خطوة استراتيجية تجمع نضال الأسرى و قد حلمنا و عملنا على تحققها منذ 2007 لتغدو الحركة الأسيرة جبهة يصعب على السجان اختراقها و يضرب أخماسه بأسداسه قبل أن يتجرأ على اسقاط أحد أعضائها شهيداً .. " ستنتصر إرادة الأسرى " لأنهم حق و الحق لا يموت و لا يزول إن كان وراءه مُطالِب .. و أسرانا مازالو يطالبون بحقهم و يناضلون لحريتهم و حرية وطنهم .. بعد أن حُرِموا لأجله من ضحكات أطفالهم .. من خطواتهم الأولى في المشي .. من كلماتهم الأولى في النطق .. من يومهم الأول في المدرسة .. من فرحة نجاحهم الأول إلى لحظة تخرجهم من الجامعات .. و من متعة احتضان الحفيد الأول .. فكانوا الحاضرين الغائبين في أفراح و أحزان عائلاتهم .. .. حرمانٌ عاشوه بحبٍ و دون ندامة لأنهم أدركوا أن حرية الوطن فرحة تصغر أمامها باقي الأفراح و قيده حزن يلغي كل الأحزان .. " سننتصر و ينتصرون " بوحدتهم خلف القضبان بكل أطيافهم محكومين أو معتقلين إداريين ، في سجون الاحتلال أو سجون السلطة في رام الله و غزة ، معتقلي السلاح و الكلمة .. أسرى و أسيرات يزداد وعيهم الوطني في كل يوم تسرقه الزنزانة من أيام عمرهم .. " سننتصر و ينتصرون " بتضامننا الحقيقي معهم قولاً و فعلاً .. قلماً و ريشةً .. رصاصةً و حجراً .. أفراداً و جماعات .. تنظيمات و قيادات .. لا تصدقوا أنهم يعشقون الظلام .. فعندما غُيّبت عنهم الشمس راحت زنودهم السمراء تنسج بصمودهم شمس الحرية ..