"الهدف" تجري حوارًا شاملاً مع عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبيّة كايد الغول

كايد الغول
حجم الخط

أكَّد عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين كايد الغول، اليوم الأحد، أنّ "الجبهة الشعبيّة أسهمت إيجابًا في عديدٍ من القضايا التي تُعنى بها الثورةُ الفلسطينيّة؛ فالجبهةُ التي اكتسبتْ خبراتٍ عديدةٍ كونها امتدادًا لحركةِ القوميّينَ العرب، مارست دورَها في العملِ القـطري /العمل الفلسطيني".

وبيّن الغول خلال حوارٍ خاص أجرته بوابة الهدف الإخباريّة في ذكرى انطلاقة الجبهة الـ54، أنّ "الجبهة تمتلكُ مخزونًا سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا وعسكريًّا مكّنها من تجنُّبِ العفويّةِ في عملِها؛ لأنّ التنظيمَ الفلسطينيَّ في حركةِ القوميّينَ العرب سبقَ وأن مارسَ كلَّ أشكالِ العملِ بما فيها العملُ المسلّح، والجبهةُ التي نقلتْ معها هذهِ التجرِبةَ في حيّزِ الحركةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّة، وحيّزِ الثورةِ الفلسطينيّةِ المعاصرة، مكّنها من التميّزِ في مفاصلَ عديدةٍ من مجالاتِ العمل، ومن أهمِّها وضوحُ الرؤيةِ السياسيّةِ ورؤيتها الواضحةِ لطبيعةِ المشروعِ الصهيونيّ".

ولفت الغول إلى أنّ "هذا التوصيفَ الدقيقَ من قبل الجبهةِ الشعبيّة للمشروع الصهيونيّ وكيانِهِ وللحركة الصهيونيّة عكسَ نفسَهُ على رؤية الجبهة في تحديدها لهدف الصراع مع هذا الكيان، وفي أشكال إدارته معه، وهذا البعدُ في رؤية الجبهة أسهمَ في تعميق الوعيّ فلسطينيًّا وعربيًّا بمخاطر هذا المشروع وكيانه، دون التعاطي مع أطروحات البعض التي كانت تدعو للتعامل مع الواقع الناشئ، وهناك قوى دوليّةٌ كانت في إطار المعسكر الاشتراكيّ تدعو للتعامل الواقعيّ مع ما جرى، التي تبعتها أحزابٌ شيوعيّةٌ عربيّةٌ دعت لقَبول وجود هذا الكيان؛ لكن الجبهةُ أعطت الجوابَ النقيضَ لكيفيّة التعامل مع الكيان عندما وصفته على حقيقته".

وأشار الغول إلى أنّ "الجبهة عملت على تظهير القضيّةِ الفلسطينيّة وعدالتِها على الصعيد الدوليّ، عندما اعتمدت في البدايات العمليّاتِ الخارجيّةَ وسيلةً للتعريف بالقضيّةِ، ومنها عمليّاتُ خطفِ الطائرات، واستهدافُ مصالحَ "إسرائيليّةٍ" في أوروبا، كما ربطت الجبهة بين النضال ضدّ الكيان الصهيونيّ - بما يمثّله من مشروعٍ استعماريٍّ في المنطقة - وبين النضال الأمميّ ضدّ الرأسماليّة، وهو ما جسّدته بوضوحٍ في تحديدِها لمعسكر الأعداء، الذي رأته في المشروعِ الصهيونيّ وكيانِه، وفي الرأسماليّة العالميّة والرجعيّات العربيّة".

وشدّد الغول على أنّ "أيُّ تدقيقٍ في مسار الأحداث اليوم يؤشّر لصحّة رؤية الجبهة في تحديدها لمعسكر الأعداء، فالاستعمارُ الذي أنشأ الكيانَ الصهيونيّ، والذي وفّر له كلَّ وسائلِ الدعم من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مازالَ حتّى اللحظةِ يقدم له ذلك، ويوفّر كلَّ مقوّماتِ بقائِهِ وتفوّقِهِ على مختلِفِ بلدانِ المنطقة، واستجابةَ العديد من البلدان العربيّة الرجعيّة لقرار الإدارة الأمريكيّة بتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيونيّ، وعقد اتّفاقاتٍ أمنيّةٍ واقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ معه يعكسُ من جهة الدور المتزايد للإمبرياليّة؛ وخاصّةً الأمريكيّة منها في ضمان تعزيز وجود هذا الكيان وإعطائه دورَ المركز في المنطقة".

وبشأن التناقضات الداخليّة، قال الغول إنّ "الجبهة أسهمت بشكلٍ كبيرٍ جدًّا في عمليّة بناء الوعي الفلسطينيّ بقضيّتِهِ من خلال التشديد على البعد الاستراتيجيّ للنضال الوطني الفلسطيني والتمسك بكامل حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والتاريخيّة، وتعاملت الجبهة مع التناقضات الداخلية بحكمةٍ ومسؤوليّةٍ عاليةٍ؛ حيث عملت على إخضاع هذهِ التناقضات لصالح التناقض الرئيسيّ مع العدوّ الصهيونيّ، كما استندت الجبهةُ لقانون (وحدة، نقد، وحدة) وسعت دومًا إلى تحقيق الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة وتصليبِها باعتبارها شرطًا لازمًا للانتصار على العدوّ الصهيونيّ، وعملت مخلصةً في سبيل ذلك في كلّ المحطّات".

أمّا عن الانقسام الفلسطيني، فقد أوضح الغول أنّ "الجبهة كانت فاعلةً في كلّ الحوارات الوطنيّة، ومبادرِةً في تقديم أوراق العمل والأفكار التي تخرج الحواراتُ والاتّفاقاتُ عن فئويّتها وتنشدُ لصالح معالجاتٍ وطنيّةٍ تستندُ إلى رؤيةٍ سياسيّةٍ تمسكُ بكامل الحقوق والأهداف الوطنيّة"، مُبينًا أنّ "الانقسامَ لم يعد يقتصرُ على كونه انقسامًا سياسيًّا، بل أصبح انقسامًا مؤسساتيًّا أيضاً، حيث هناك حالةُ استقطابٍ في الساحة الفلسطينيّة، وكلٌّ من طرفي الانقسام يستأثرُ بأحد مكوّنات النظام السياسيّ الفلسطينيّ، وهذا يجعلُ من البحث عن مُعالجة الانقسام من قبل أطرافِهِ يرتبطُ إلى حدٍّ بعيدٍ بمدى ما توفّرُهُ جهودُ إنهاءِ الانقسام من مكتسباتٍ إضافيّةٍ له".

وعن أفق الحل، أكَّد الغول على أنّ "إسرائيل التي تنظر إلى الانقسام على أنّه مصلحةٌ استراتيجيّةٌ لها؛ عملت على تعطيلِ أيِّ جهودٍ من شأنِها القضاءُ عليه، كما عملت بلدانٌ في الإقليم على تعزيزِهِ بأساليبَ مختلفةٍ"، مُؤكدًا أنّ "الأولويّةَ تكمنُ في عدم التعامل مع النظام السياسيّ الفلسطينيّ باعتباره ملكًا خاصًّا لهذا الفصيل أو ذاك، ثمّ في الاتّفاق على برنامجٍ وطنيٍّ واستراتيجيّةٍ وطنيّةٍ، وإعادةَ تصويبِ وضعِ المؤسّسات الوطنيّة، وفي القلب منها منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة من خلال انتخاباتٍ شاملةٍ، وتوفّر الشراكة الوطنيّة في إدارة الشأن الداخليّ وإدارة الصراع مع الاحتلال يشكّلُ البعدَ الآخر في متطلّباتِ توحيدِ الساحةِ الفلسطينيّةِ على أسسٍ سليمةٍ".

وتابع الغول: "الجبهةَ كانت على الدوام قوّةً توحيديّةً بامتيازِ ولم تبحث في يومٍ من الأيّام عن مصالحَ خاصّةٍ أو مصالحَ حزبيّةٍ، وإنّما كانت تضعُ نصبَ عينيها مصالحَ الشعب الفلسطينيّ ووحدته، ويجب أن تعطى الأولويّةُ في إعادة بناء النظام السياسيّ الفلسطينيّ لمنظّمةِ التحرير الفلسطينيّة ولمؤسّساتها، وإعادة الاعتبار لميثاقها وبرنامجها السياسيّ الذي يتمسّك بالحقوق الوطنيّة والتاريخيّة كافّة، كما يجب فصل أيِّ تداخلٍ بين منظّمة التحرير والسلطة؛ فالسلطةُ التي شُكّلت بمفاعيلِ اتّفاقِ أوسلو مقيّدةً بقيودِه، وتغوّلت على المنظّمة وقادت – بفعل فاعل - إلى تغييبِ دورِ المنظّمةِ وتبهيتِهِ".

ورأى الغول أنّه "ولإعادةِ بناءِ المنظّمة جزءٌ من إعادةِ بناء النظام السياسيّ الفلسطينيّ، يمكن ذلك أن يتمَّ من خلال آليّتين: إمّا التوافقُ الوطنيّ على تشكيل مجلسٍ وطنيٍّ جديدٍ كمرحلةٍ انتقاليّة، أو الذهابُ مباشرةً لإجراءِ الانتخابات الشاملة"، داعيًا "لأنْ تتضمّنَ عمليّةُ إعادة بناء النظام السياسي إجراءَ الانتخاباتِ النقابيّة وغيرها من المؤسّسات لتجديد واقعِ الاتّحادات الشعبيّة والنقابات بمختلِفِ مستوياتِها؛ ممّا يمكنُنا من إعادة الاعتبار لدورها مجتمعيًّا وسياسيًّا وانتخابِ قياداتِها التي تمثّلُ قاعدتِها الفعليّة".

أمّا بشأن تطبيع بعض الأنظمة العربيّة، فشدّد الغول على أنّ "التطبيعُ الرسمي العربيّ لم يعد مقتصرًا على علاقاتٍ سياسية بين الكيان الصهيونيّ والأنظمة الرجعيّة العربيّة التي أقبلت عليه، حيث انتقل إلى علاقاتٍ أمنيّةٍ وعسكريّةٍ تعكس حالةً من الانهيار الذي جاء في ظلّ تضاعفِ الهجمةِ الصهيونيّة الأمريكيّة على الشعب الفلسطينيّ، وبدلًا من أن يتّحدَ العربُ في مواجهةِ السياسةِ العدوانيّة الأمريكيّة الفجّة، التي تجسدت بـ"صفقة القرن" وأقرّت ب القدس عاصمةً للكيان الصهيونيّ، التي يزعمون أنّها المكانُ المقدّس للمسلمين؛ يستسلمون ويهرولون للتطبيع مع الكيان".

ورأى الغول أنّ "هذا الاستسلامُ مكّن الكيانَ الصهيونيَّ من التموضع في العديد من البلدان العربيّة، حيث لم يعد وجودُهُ مقتصرًا على فلسطين، بل أصبح في البلدانِ المطبّعة كافةً، وفي ضوء ذلك دعت الجبهةُ إلى تشكيل جبهاتٍ قطريّةٍ وجبهةٍ عربيّةٍ موحّدةٍ لمقاومةِ التطبيع، وأجرت - وما تزال - حواراتٍ مع العديد من القوى السياسيّة، وصاغت شعارَ انطلاقتِها لهذا العام بما يعكسُ هذا البعد "الدعوة لجبهةٍ عربيّةٍ من أجل مقاومةِ التطبيع والتصفيّة".

وفي ختام حديثه، أكَّد الغول على أنّه "ورغم تسارع دائرة التطبيع، نلمسُ مؤشّراتٍ إيجابيّةً في مقاومته يجب أن نبنيَ عليها؛ فما يجري من فعالياتٍ في البحرين والمغرب - على سبيل المثال - وغيرها في البلدان المطبّعة، يتطلّب العملُ على تعزيزها وتوسيعِ دوائرها".

"بوابة الهدف" تنشر الحوار كاملاً مع عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبيّة كايد الغول:

54 عامًا مضت على تأسيس الجبهة الشعبيّة، كيف تقيّمون مسيرة الجبهة خلال هذه السنوات؟

تجرِبةُ الجبهةِ على مدارِ أربعةٍ وخمسينَ عامًا في محصّلتِها تجرِبةٌ إيجابيّةٌ شكّلتْ خلالَها الجبهةُ إضافةً نوعيّةً للحركةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّة، وأسهمتْ إيجابًا في عديدٍ من القضايا التي تُعنى بها الثورةُ الفلسطينيّة؛ فالجبهةُ التي اكتسبتْ خبراتٍ عديدةٍ كونها امتدادًا لحركةِ القوميّينَ العرب، مارست دورَها في العملِ القطري /العمل الفلسطيني، وهي تمتلكُ مخزونًا سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا وعسكريًّا مكّنها من تجنُّبِ العفويّةِ في عملِها؛ لأنّ التنظيمَ الفلسطينيَّ في حركةِ القوميّينَ العرب سبقَ وأن مارسَ كلَّ أشكالِ العملِ  بما فيها العملُ المسلّح، الذي بدأ بممارستِهِ عامَ 1964، وقدّمَ الشهداءَ/ خالد أبو عيشة، محمد اليماني، رفيق عساف، سعيد العبد سعيد؛ فضلًا عن الأسيرِ سكران محمد سكران ،  معمِّدًا بالدمِ تجرِبتَهُ قبلَ ومع انطلاقِ الثورةِ الفلسطينيّةِ المعاصرةِ عامَ 1965.

الجبهةُ الشعبيّة التي نقلتْ معها هذهِ التجرِبةَ في حيّزِ الحركةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّة، وحيّزِ الثورةِ الفلسطينيّةِ المعاصرة، مكّنها من التميّزِ في مفاصلَ عديدةٍ من مجالاتِ العمل، ومن أهمِّها وضوحُ الرؤيةِ السياسيّةِ ورؤيتها الواضحةِ لطبيعةِ المشروعِ الصهيونيّ في فلسطين، باعتباره مشروعًا استعماريًّا تجسّدَ بإضافةِ كيانٍ استعماريٍّ إجلائيٍّ جرت رعايتُهُ من قبل الاستعمارِ والرأسماليّةِ العالميّةِ لتحقيقِ استراتيجيّةِ السيطرةِ على المنطقةِ وثرواتِها، وتكريسِ تفتيتِها إلى دويلاتٍ تابعةٍ وحجزِ تطوّرِها والحيلولةِ دونَ تمكّنِها من الوحدةِ.

 إنّ هذا التوصيفَ الدقيقَ من قبل الجبهةِ الشعبيّة للمشروع الصهيونيّ وكيانِهِ وللحركة الصهيونيّة عكسَ نفسَهُ على رؤية الجبهة في تحديدها لهدف الصراع مع هذا الكيان، وفي أشكال إدارته معه. وعليه حدّدت الجبهةُ منذ البداية الهدفَ الرئيسيَّ لها، وللثورة الفلسطينيّة في هزيمة هذا الكيان، وتحرير كامل التراب الفلسطيني، واعتبار الحركة الصهيونيّة بكيانها المتجسّد على أرض فلسطين مشروعًا استعماريًّا يتجاوزُ في أطماعِهِ حدودَ فلسطين، ومصالحَ الشعب الفلسطينيّ وحقوقَهُ؛ ليطالَ الأمّةَ العربيّةَ ومصالحَها جمعاء.

 وفي السياقِ ذاتِهِ ربطت الجبهةُ بين النضال الوطنيّ الفلسطينيّ لتحرير فلسطين، والنضال القوميّ باعتبار المشروع الصهيوني - كما أشرت - يتجاوزُ في أطماعه حدودَ فلسطين، وهذا البعدُ في رؤية الجبهة بوصف المشروع الصهيونيّ على حقيقتِهِ أسهمَ في تعميق الوعيّ فلسطينيًّا وعربيًّا بمخاطر هذا المشروع وكيانه،  دون التعاطي مع أطروحات البعض التي كانت تدعو للتعامل مع الواقع الناشئ، كما كانت تروّجُ أطرافٌ عديدةٌ في المنطقة العربيّة والدوليّة، ومن بينها قوًى دوليّةٌ كانت في إطار المعسكر الاشتراكيّ تدعو للتعامل الواقعيّ مع ما جرى، التي تبعتها أحزابٌ شيوعيّةٌ عربيّةٌ دعت لقَبول وجود هذا الكيان؛ انطلاقًا من موافقتها على قرار التقسيم؛ الجبهةُ أعطت الجوابَ النقيضَ لكيفيّة التعامل مع الكيان الصهيونيّ عندما وصفته على حقيقته، وربطت على هذا الأساس بين النضال الوطنيّ والقوميّ، ونسجت أفضلَ العلاقات مع قوى حركات التحرّر الوطنيّ العربيّ، وعملت على تشكيل أطرٍ تسندُ النضالَ الوطنيّ الفلسطينيّ، وفتحت أبوابَها وقواعدَها لانخراط المناضلين العرب في صفوفِها.

ارتباطًا برؤيتِها؛ عملت الجبهةُ أيضًا على تظهير القضيّةِ الفلسطينيّة وعدالتِها على الصعيد الدوليّ، عندما اعتمدت في البدايات العمليّاتِ الخارجيّةَ وسيلةً للتعريف بالقضيّةِ الفلسطينيّة، ومنها عمليّاتُ خطفِ الطائرات، واستهدافُ مصالحَ "إسرائيليّةٍ" في أوروبا، وعندما نسجت أفضلَ العلاقات مع قوى حركاتِ التحرّر الوطنيّ على الصعيد العالميّ، وأقامت علاقاتٍ ميدانيّةً وعملاتيّةً مع الكثير منها، كما ربطت بين النضال ضدّ الكيان الصهيونيّ - بما يمثّله من مشروعٍ استعماريٍّ في المنطقة - وبين النضال الأمميّ ضدّ الرأسماليّة، وهو ما جسّدته بوضوحٍ في تحديدِها لمعسكر الأعداء، الذي رأته في المشروعِ الصهيونيّ وكيانِه، وفي الرأسماليّة العالميّة والرجعيّات العربيّة.

أيُّ تدقيقٍ في مسار الأحداث اليوم يؤشّر لصحّة رؤية الجبهة في تحديدها لمعسكر الأعداء، فالاستعمارُ الذي أنشأ الكيانَ الصهيونيّ، والذي وفّر له كلَّ وسائلِ الدعم من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مازالَ حتّى اللحظةِ يقدم له ذلك، ويوفّر كلَّ مقوّماتِ بقائِهِ وتفوّقِهِ على مختلِفِ بلدانِ المنطقة. وعليه فإنّ استجابةَ العديد من البلدان العربيّة الرجعيّة لقرار الإدارة الأمريكيّة بتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيونيّ، وعقد اتّفاقاتٍ أمنيّةٍ واقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ معه يعكسُ من جهة الدور المتزايد للإمبرياليّة؛ وخاصّةً الأمريكيّة منها في ضمان تعزيز وجود هذا الكيان وإعطائه دورَ المركز في المنطقة، التي حرصت على إبقائها خاضعةً للتخلّف والتبعيّة، ويؤكّد من جهةٍ أخرى صحّةَ توصيفِ الجبهة على موقع ودور الرجعيّة العربيّة في معسكر الأعداء.

ما الدورُ الذي أدّته الجبهةُ الشعبيّةُ في بناء وعي الشعب الفلسطيني وفي إدارة التناقضات السياسيّة الداخليّة، وما الوسائلُ التي استخدمتها الجبهةُ لتشكيل هذا الوعي؟

أسهمت الجبهةُ الشعبيّةُ بشكلٍ كبيرٍ جدًّا في عمليّة بناء الوعي الفلسطينيّ بقضيّتِهِ من خلال التشديد على البعد الاستراتيجيّ للنضال الوطني الفلسطيني والتمسك بكامل حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والتاريخية، ثمّ من خلال الإسهامات الفكريّة والسياسيّة والثقافيّة والتنويريّة في الساحة الفلسطينيّة، التي تجلّت في أدبيّات الجبهة ومنشوراتها ومواقفها المعلنة، وفي مجلّة الهدف الصادرة عنها، وما أنتجه الشهيدُ غسّان كنفاني، الذي كان له إسهاماتٌ كبيرةٌ في هذا المجال. أمّا عن إدارة التناقضات الداخليّة الفلسطينيّة؛ فقد تعاملت معها الجبهةُ بحكمةٍ ومسؤوليّةٍ عاليةٍ؛ حيث عملت على إخضاع هذهِ التناقضات لصالح التناقض الرئيسيّ مع العدوّ الصهيونيّ، ولم تجعل من أيّ تناقضاتٍ ثانويّةٍ أن تتقدّم على التناقض الرئيسيّ مع الاحتلال.

وفي ذلك، استندت الجبهةُ لقانون (وحدة، نقد، وحدة) وسعت دومًا إلى تحقيق الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة وتصليبِها باعتبارها شرطًا لازمًا للانتصار على العدوّ الصهيونيّ، وعملت مخلصةً في سبيل ذلك في كلّ المحطّات، التي كانت تشهدُ فيها الساحةُ الفلسطينيّةُ خلافاتٍ أو انقسامات، وآخرها الانقسامُ الكارثيُّ القائمُ منذ عام 2007، حيث كانت الجبهةُ فاعلةً في كلّ الحوارات الوطنيّة، ومبادرِةً في تقديم أوراق العمل والأفكار التي تخرج الحواراتُ والاتّفاقاتُ عن فئويّتها وتنشدُ لصالح معالجاتٍ وطنيّةٍ تستندُ إلى رؤيةٍ سياسيّةٍ تمسكُ بكامل الحقوق والأهداف الوطنيّة، وإعادة بناء المؤسّسات الوطنيّة ديمقراطيًّا، وتوفير الشراكة في قيادتها.

برأيكم ما سببُ استمرار الانقسام الفلسطينيّ حتّى اللحظة، ولماذا فشلت جهودُ الجبهة وغيرها من الجهود في إنهائه؟

الجوابُ يكمنُ في أنّ الانقسامَ لم يعد يقتصرُ على كونه انقسامًا سياسيًّا، بل أصبح انقسامًا مؤسساتيًّا أيضاً، حيث هناك حالةُ استقطابٍ في الساحة الفلسطينيّة، وكلٌّ من طرفي الانقسام يستأثرُ بأحد مكوّنات النظام السياسيّ الفلسطينيّ، ويستقوي فيما يمتلكُهُ لتعزيز ما هو قائمٌ، وهذا يعقّد الأمورَ ويجعلُ من البحث عن معالجة الانقسام من قبل أطرافِهِ يرتبطُ إلى حدٍّ بعيدٍ بمدى ما توفّرُهُ جهودُ إنهاءِ الانقسام من مكتسباتٍ إضافيّةٍ له.

ودونَ شكٍّ، فإنّ "إسرائيل" التي تنظر إلى الانقسام على أنّه مصلحةٌ استراتيجيّةٌ لها؛ عملت خلال السنوات السابقة على تعطيلِ أيِّ جهودٍ من شأنِها القضاءُ عليه، كما عملت بلدانٌ في الإقليم على تعزيزِهِ بأساليبَ مختلفةٍ - حتّى وإنْ بدا ذلك مساعدةً تقدّمُ للفلسطينيّين – وعليه؛ فإنّ الاستقطابَ والاستعصاءَ الداخليّ أبقى الأزمةَ على ما هي عليه؛ ممّا فاقم من الأزمة الوطنيّة، وأسهم في ضعف الوضع الفلسطينيّ، وفي هذا المناخ تقدّمت خطةُ ترامب، التي وجدت ترحيبًا ودعمًا من بعض البلدان العربيّة الرجعيّة، وتوجّهت تحت دعاوى عديدةٍ للتطبيع مع الكيان الصهيونيّ.

أمّا عن أفقِ الحلّ التي تراها الجبهةُ، والشروط التي لا غنى عنها لتوحيد الساحة الفلسطينيّة، نؤكّد أنّ الأولويّةَ تكمنُ في عدم التعامل مع النظام السياسيّ الفلسطينيّ باعتباره ملكًا خاصًّا لهذا الفصيل أو ذاك، ثمّ في الاتّفاق على برنامجٍ وطنيٍّ واستراتيجيّةٍ وطنيّةٍ بما يتطلّبُهُ من إلغاءِ اتّفاق أوسلو،  وكلّ ما ترتّب عليه من التزامات، وسحب الاعتراف بالكيان الصهيونيّ وإعادة التأكيد على كامل الحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ، فالوحدةُ الفلسطينيّةُ كانت على الدوام تقومُ على هدف "تحرير فلسطين" كناظمٍ وحّد الشعبَ الفلسطينيّ، في حين أنّ دهاليز البحث عن تسويةٍ؛ وصولًا لتوقيع اتّفاق أوسلو هو من قسّم الساحةَ الفلسطينيّةَ سياسيًّا ووضعَ القضيّةَ الفلسطينيّةَ في أزمةٍ عميقة

إلى جانبِ ما سبقَ؛ فإنَّ إعادةَ تصويبِ وضعِ المؤسّسات الوطنيّة، وفي القلب منها منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة من خلال انتخاباتٍ شاملةٍ، وتوفّر الشراكة الوطنيّة في إدارة الشأن الداخليّ وإدارة الصراع مع الاحتلال يشكّلُ البعدَ الآخر في متطلّباتِ توحيدِ الساحةِ الفلسطينيّةِ على أسسٍ سليمةٍ، وبما يقودُ لتوحيد طاقاتِ شعبنا وإمكاناته في أماكن وجودِهِ كافّة.

وبهذا الصددِ أسجّلُ بكلِّ ثقةٍ أنّ الجبهةَ كانت على الدوام قوّةً توحيديّةً بامتيازِ ولم تبحث في يومٍ من الأيّام عن مصالحَ خاصّةٍ أو مصالحَ حزبيّةٍ، وإنّما كانت تضعُ نصبَ عينيها مصالحَ الشعب الفلسطينيّ ووحدته، والحفاظ على القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة كبوصلةٍ للتمكّن من مواصلة النضال بنجاحٍ ضدّ العدوّ الصهيونيّ.

في ظلِّ الظروف السياسيّة الراهنة، وفي ظلّ حالةِ تراجعِ الاهتمامِ العربيّ بقضيّتِنا الفلسطينيّة، تبرزُ أهميّةَ العمل الكفاحيّ المسلّح، فكيف ترى الجبهةُ دورها في هذا المجال؟

تاريخيًّا عمدت الجبهةُ على إعطاءِ الكفاحِ المسلّح أهميّةً خاصّةً، وبتجرِبتِها التاريخيّة تميّزت بأشكالٍ مقاوِمةٍ متنوّعةٍ ومؤثّرةٍ، ويمكنُ في هذا السياق استذكارُ تجارِب أبو منصور في الخليل، وجيفارا غزة، وعمليّات القدس، ومطار اللُّد والجولان والبدايات الأولى، التي كانت فيها الجبهةُ قوّةً أولى على هذا الصعيد، كما من المهمّ الإشارةُ إلى أنّ الجبهةَ، ومن خلال خطف إحدى الطائرات إلى الجزائر في تموز عامَ 1968 كأحد أشكال ممارستها العسكرية، تمكّنت من إجراءِ أوّلِ عمليّةِ تبادلٍ للأسرى، حيث تمكّنت بموجبها من إطلاق 37 أسيرًا فلسطينيًّا، وفي سياق التجرِبة اهتمّت الجبهةُ بأشكالِ العمل الأخرى، حيث دعت إلى ممارسةِ أشكال النضال كافةً؛ الجماهيريّة، والسياسيّة، والدبلوماسيّة، والثقافيّة، والاقتصاديّة،  باعتبارها أشكالًا لا بدّ من استخدامها في إطار الصراع الشامل والمفتوح مع العدوّ الصهيونيّ، وما تزالُ الجبهةُ تركّزُ وتؤكّدُ - بصرف النظر عن حجم ممارستها لهذا الشكل في هذهِ اللحظة - على ضرورةِ ممارسةِ  العمل المسلّح وتوسيعِهِ وتطويرِهِ، باعتبارِهِ ضرورةً لا غنى عنها في الصراع مع العدوّ؛ جزءًا لا يتجزّأُ من الثقافةِ المطلوبِ تكريسُها في وعي أبناء شعبنا أمامَ ثقافةِ الانهزام وثقافةِ التسليم بالأمر الواقع.

دونَ أدنى  شكّ، أيُّ مقارناتٍ لدورِ الجبهة العسكريّ بين الأمس واليوم يعطي انطباعًا بالتراجع عمّا سبق، خاصّةً إذا ما قيس أيضًا بقوى أخرى في الساحة الفلسطينيّة توفّرت لها إمكاناتُ التقدّم في هذا الميدان؛ وبموضوعيّةٍ شديدةٍ هناك أكثرُ من سببٍ في تفسيرِ واقعِ الجبهة الراهن على هذا الصعيد، منها  ما هو خارجيٌّ وآخرُ ذاتيّ؛ فالخارجيُّ يكمنُ بالحصار المفروض على الجبهة منذُ سنواتٍ، والعمل على تجفيف مواردها وملاحقتها الدائمة، ومحاولات استئصالها من قبل العدوّ الصهيونيّ كما يجري الآن في الضفة، يشيرُ إلى تقديرِ العدوّ لمدى خطورةِ الجبهة والدور الذي يمكنُ أن تؤديَهُ على مختلِفِ الصعد بما فيهِ العملُ العسكريّ، الذي عبّرت عنه عديدٌ من العمليّات النوعيّة التي جرت في الضفّة مؤخّرًا.

أمّا في البعد الذاتيّ فلم تنجح الجبهةُ حتّى اللحظة في أن يكون فعلُها العسكريُّ على المستوى المأمول من أعضائها وجماهيرها، وهو الأمرُ الذي تبحثُ فيهِ وتناقشُهُ الهيئاتُ القياديّةُ للجبهة من أجل تطوير أدواتها ذات الاختصاص وإيجادِ الحلول والتطوير لإمكاناتها وفعلها العسكري؛ وصولًا إلى أن تكونَ قوّةً رئيسية إن لم تكن قوةً أولى في هذا الميدان؛ ونأمل أن نتمكّنَ من معالجة أيِّ تقصيراتٍ ذاتيّة، ويبقى الأساسُ هو ألّا تسقطَ فكرةُ المقاومة المسلّحة.

وإلى جانبِ إيمانِها المطلقِ بالكفاحِ المسلّح ترى الجبهةُ الشعبيّة، قيمةَ الشرعيّةِ الدوليّة وقراراتها في إطار الصراع مع الكيان الصهيونيّ، فهي سلاحٌ بيد الشعب الفلسطينيّ، إذا ما أحسنّا التعاملَ معها؛ خاصّةً أنّها تقرّرُ لشعبِنا حقَّهُ في العودة وتقرير المصير والدولة المستقلّة، ودونَ المساومةِ على حقوقنا التاريخيّة، فالمساومةُ على ما أقرّته الشرعيّةُ الدوليّةُ قاد لتوقيعِ اتّفاق أوسلو الذي يتناقضُ مع هذهِ القرارات، والذي تحت مظلّتِهِ تمكّن الكيانُ الصهيونيُّ من تعميقِ مشروعِهِ الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين، سواءً من خلال التمدّد الاستيطانيّ وضمّ القدس ومصادرة الأراضي وفرض سياسةِ الأمر الواقع أو غيرها من سياسات ومخططات.

س: هناك حالةٌ كبيرةٌ من التراجعِ تشهدُها القضيّةُ الفلسطينيّة، فما "شكلُ النظامِ الفلسطيني" الذي ترى فيه الجبهةُ القدرةَ على أن يعيدَ للقضيّة الفلسطينيّة مركزيّتَها؟

النظامُ السياسيُّ الفلسطينيُّ يجب أن يبنى على أساسٍ واضحٍ هو أنّنا شعبٌ يرزحُ تحت الاحتلال، ويعيشُ مرحلةَ تحرّرٍ وطنيٍّ وديمقراطيّ، وهو ما يتطلّب أن تبنى مؤسّساتُهُ، وفي القلبِ منها م.ت.ف على هذا الأساس، وأن تتحدّد وظيفتُها ومهامُها بالانطلاق من ذلك؛ وعليه يجب أن  تعطى الأولويّةُ في إعادة بناء النظام السياسيّ الفلسطينيّ لمنظّمةِ التحرير الفلسطينيّة ولمؤسّساتها، وإعادة الاعتبار لميثاقها وبرنامجها السياسيّ الذي يتمسّك بالحقوق الوطنيّة والتاريخيّة كافّة، والتعامل معها – عدا عن كونها ممثّلًا شرعيًّا وحيدًا لشعبنا - باعتبارها جبهةً وطنيّةً تضمُّ في صفوفِها كلَّ مكوّناتِ الشعب الفلسطينيّ، وتقودُ نضالَهُ استنادًا لما سبق، وتعيدُ بناءَ علاقاتِها  العربيّة والدوليّة على هذا الأساس. 

وفي السياق، أن يجري فصلُ أيِّ تداخلٍ بين منظّمة التحرير والسلطة؛ فالسلطةُ التي شُكّلت بمفاعيلِ اتّفاقِ أوسلو مقيّدةً بقيودِه، وتغوّلت على المنظّمة وقادت – بفعل فاعل - إلى تغييبِ دورِ المنظّمةِ وتبهيتِهِ. ولإعادةِ بناءِ المنظّمة جزءٌ من إعادةِ بناء النظام السياسيّ الفلسطينيّ، نرى أنّ ذلك يمكن أن يتمَّ من خلال آليّتين: إمّا التوافقُ الوطنيّ على تشكيل مجلسٍ وطنيٍّ جديدٍ كمرحلةٍ انتقاليّة، أو الذهابُ مباشرةً لإجراءِ الانتخابات الشاملة، كما تقرّر سابقًا، يعادُ من خلالها تكوينُ المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ الجديد، وانتخابُ هيئات المنظّمة بما يراعي التعدّديّة في الساحة الفلسطينيّة، ويضمنُ الشراكةَ في إدارة الشأن الوطنيّ، وفي إدارة الصراع مع الاحتلال "الإسرائيليّ".

كما ندعو لأنْ تتضمّنَ عمليّةُ إعادة بناء النظام السياسي إجراءَ الانتخاباتِ النقابيّة وغيرها من المؤسّسات لتجديد واقعِ الاتّحادات الشعبيّة والنقابات بمختلِفِ مستوياتِها؛ ممّا يمكنُنا من إعادة الاعتبار لدورها مجتمعيًّا وسياسيًّا وانتخابِ قياداتِها التي تمثّلُ قاعدتِها الفعليّة.

دعنا نتطرق إلى أزمة اليسار وأبرز التحدّيات التي تواجهه، وهل يمكننا الحديث عنه بديلًا ثوريًّا وخيارًا ثالثًا تلتفُّ حولَهُ الجماهير؟

قبل الحديثِ عن كونِهِ بديلًا، فإنّ الأولويةَ التي على اليسار الفلسطينيّ أن يقومَ بها، هو أن يصبح  ركنًا أساسيًّا  في إعادة بناء المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وهذا لا يمكنُ أن يتحقّقَ إلا إذا توحّد اليسارُ ذاته، وحتّى يتحقّقَ ذلك؛ مطلوبٌ منه أن يخرج من ضبابيّة المواقف السياسيّة والاجتماعيّة، ويخرج من ظلال اليمين، وألّا يكونَ محسوبًا على أجنداتٍ أخرى، كما يتحتّم عليه استعادةُ هُويّتِهِ التي تشوّهت في الفترة السابقة، وأن يجدد ذاته، حيث ما يزالُ البعضُ منه تحت تأثير المسار التقليدي، الذي عاشه اليسارُ على مدار السنوات السابقة، الذي تأزّمت أوضاعُهُ بعد انهيار الاتّحاد السوفييتيّ والمنظومة الاشتراكيّة، فمن يطلق على ذاته قوّةً يساريّةً يجب أن يبادرَ لممارسة التجديد؛ سواءً في صفوفِهِ أو في فكرِهِ وسياساتِهِ التي لا تفقدُهُ هُويّتَه.

وعلى هذا الصعيد، بذلت الجبهةُ جهودًا كبيرةً من أجل توحيد اليسار، قادها في فترةٍ من الفترات الرفيقُ الشهيد أبو علي مصطفى ، ووصلت إلى الاتّفاق على وثائقَ محدّدة، لكنّ هذهِ الوثائقَ تعطّلت ولم تترجم بصيغ عملٍ تنقلُ اليسارَ ككتلةٍ مستقلّةٍ في صوغ رؤيتِهِ وسياساتِه، وبدلًا من ذلك جرى استغلالُ تشتّتِ اليسار وضعفه لممارسة المزيد من الضغوط عليه، وصولًا لإخضاع بعضِهِ في تبنّي سياساتٍ وتمريرِها من المفترض أنّها نقيضةٌ لرؤيتِه.

إنّ نجاحَ اليسار الفلسطينيّ في توحيد ذاته – إذا ما تحقّق - هذا سيعكسُ نفسَهُ إيجابًا على اليسار العربيّ الذي يعيشُ هو الآخرُ أزمةً عميقةً؛ نتيجةَ تكلّس العديد من قواه، ونتيجةَ تمسّكها بالمسار التقليديّ الذي مازالت تعيشُهُ منذ الأربعينات والخمسيناتِ وحتّى يومِنا هذا.

إنّ التحدّياتِ الكبيرةَ القائمةَ تتطلّبُ الإسراعَ بإعادةِ التجديد ليس فقط داخل اليسار الفلسطينيّ، إنّما داخل اليسار العربيّ أيضًا، حتّى يتمكّن من ممارسة دورِهِ في إطار النضال السياسيّ والاجتماعيّ في مختلِف البلدان العربيّة، وأعتقدُ أنّه لو كان اليسارُ العربيّ ناضجًا ويعيشُ أوضاعًا صحيّةً لكان له دورٌ مؤثّرٌ وقياديٌّ ملموسٌ في قيادة الحراكات والانتفاضات الشعبية التي جرت في عددٍ من البلدان العربيّة.

يومًا تلو الآخر تتنامى ظاهرةُ "التطبيع العربيّ"، كيف يؤثّر ذلك على الحالةِ الفلسطينيّةِ وكيف يمكنُ مواجهةُ هذهِ الهرولةِ المتصاعدة؟

 التطبيعُ الرسمي العربيّ لم يعد مقتصرًا على علاقاتٍ سياسية بين الكيان الصهيونيّ والأنظمة الرجعيّة العربيّة التي أقبلت عليه، حيث انتقل إلى علاقاتٍ أمنيّةٍ وعسكريّةٍ تعكس حالةً من الانهيار الذي جاء في ظلّ تضاعفِ الهجمةِ الصهيونيّة الأمريكيّة على الشعب الفلسطينيّ، وعلى قضيّتِهِ الوطنيّة، فبدلًا من أن يتّحدَ العربُ في مواجهةِ السياسةِ العدوانيّة الأمريكيّة الفجّة، التي تجسدت بـ"صفقة القرن" وأقرّت بالقدس عاصمةً للكيان الصهيونيّ، التي يزعمون أنّها المكانُ المقدّس للمسلمين؛ يستسلمون ويهرولون للتطبيع مع الكيان الصهيونيّ.

وبالتأكيد، هذا الاستسلامُ مكّن الكيانَ الصهيونيَّ من التموضع في العديد من البلدان العربيّة، حيث لم يعد وجودُهُ مقتصرًا على فلسطين، بل أصبح في البلدانِ المطبّعة كافةً، ما سيعزّز من دورِهِ المركزيّ في الإقليم، وهذا هو الخطرُ الكبيرُ على شعوب الأمّة العربيّة ومصالحها.

في ضوء ذلك دعت الجبهةُ إلى تشكيل جبهاتٍ قطريّةٍ وجبهةٍ عربيّةٍ موحّدةٍ لمقاومةِ التطبيع، وأجرت في سبيل ذلك - وما تزال - حواراتٍ مع العديد من القوى السياسيّة، وصاغت شعارَ انطلاقتِها لهذا العام بما يعكسُ هذا البعد،" الدعوة لجبهةٍ عربيّةٍ من أجل مقاومةِ التطبيع والتصفيّة"  

ورغم تسارع دائرة التطبيع، نلمسُ مؤشّراتٍ إيجابيّةً في مقاومته يجب أن نبنيَ عليها؛ فما يجري من فعالياتٍ في البحرين والمغرب - على سبيل المثال - وغيرها في البلدان المطبّعة، يتطلب العملُ على تعزيزها وتوسيعِ دوائرها.

تستمرُّ الأزمةُ السوريّةُ وتتوالى انعكاساتُها على الوضع العربيّ والإقليميّ، كيف تقيّمون الوضعَ هناك؟

ما يجري في سوريا هو جزءٌ من مخطّطٍ يستهدفُ تفكيكَ الدولةِ الوطنيّةِ العربيّة، وخاصّةً المركزيّة منها، فهي لا تستهدفُ إسقاطَ أنظمةٍ فقط، بل إسقاط فكرٍ ما يزال متمسّكًا بالفكر القوميّ، وبالبعد القوميّ للقضيّة الفلسطينيّة، ومازال متمسّكًا بالوحدة العربيّة إلى جانب وقوفها مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية ودعمها بأشكال مختلفة، وبالتخصيص لما تشهدُهُ سوريا، فإلى جانبِ كلّ ما سبقَ؛ فإنّ سوريا كانت خارجَ دائرةِ مديونيّاتِ البنك الدوليّ، ولديها اكتفاءٌ ذاتيٌّ من خلال إنتاج المحاصيل الزراعيّة، ومن خلال ثرواتها النفطيّة وغير ذلك من مقدّرات، وهذا كان سببًا إضافيًّا - حسبَ وجهةِ النظر الصهيوأمريكية -  لتحطيم هذه الدولة التي تحُول بمواقفها وسياساتها دون إخضاعِ كاملِ المنطقة للمخططات المعادية وتحقيقِ الأطماعِ التوسعيّة فيها.

وعندما فشل مخططُ إسقاط سوريا عسكريًّا توجّهت الإدارةُ الأمريكيّةُ وحلفاؤها إلى استخدام قانون "قيصر"؛ بهدف تشديد الحصار الاقتصادي عليها في محاولةٍ لإسقاطها من الداخل عبرَ تجويع الشعب السوريّ وخلق أزماتٍ عميقة، ومع ذلك أعتقدُ أنّ وعيَ الشعب السوريّ وقواه السياسيّة وقيادته إلى جانبِ وجودِ حلفاء، مثل: إيران وروسيا؛ سيُفشلُ هذا المخطط.

هل ترى الجبهةُ في إيران وحزب الله، حليفًا استراتيجيًّا لها؟

منذ أن انطلقت ثورةُ الخميني ونجحت في إسقاطِ نظام الشاه، أعلنت الجبهةُ عن تأييديها ودعمِها للثورة الإيرانيّة، ورأت فيها تحوّلًا استراتيجيًّا يمكنُ أن يسهمَ في دعم القضيّة الفلسطينيّة.

ومن المفيد الإشارةُ إلى أنّه قبل نجاح الثورة الإيرانيّة كان للجبهة علاقاتٌ وطيدةٌ مع العديد من القوى والأحزاب الإيرانيّة التي حرصت الجبهةُ على تقديم الدعم لها ومساعدتها في التدريب العسكريّ لعناصرها في معسكرات الجبهة، وبعد الثورة باتت الجبهةُ تنظرُ إلى إيران على أنّها قوّةٌ مناهضةٌ لكيان العدو الصهيونيّ وداعمةٌ لشعبنا، عدا عن كونها قوّةً مناهضةً للأطماع والمخطّطات الأمريكيّة في المنطقة، وهذا موضوعٌ مهمٌّ في تحديد أسس التحالف بين الأطراف في المنطقة.

وانطلاقًا من موقع إيران هذا، فإنّ الجبهةَ تدعو إلى معالجة أيِّ خلافٍ بين إيران والبلدان العربيّة المحيطة بها من خلال الحوار، كما تدعو الجميعَ إلى مغادرة أيِّ وهمٍ، ووقفِ أيِّ تحريضٍ يعدّ إيرانَ العدوَّ الرئيسيَّ في المنطقة بديلًا للعدوّ الحقيقيّ؛ وهو الكيانُ الصهيونيّ.

إنّ تحسُّبَ الأطرافِ التي ترى في إيران قوّةً توسّعيّةً في المنطقة العربيّة عليها أن تراجع ذاتها، وأن تسأل نفسها "لماذا يتوسّع نفوذُ إيران في المنطقة العربيّة؟"، ومن يخشاه عليه أن ينافس إيران في الأسباب التي قادتها إلى توسيع نفوذها – إن صحّ ذلك - حتى يقطعَ الطريقَ عليها، هذهِ الأسباب التي تكمن في دعم الشعب الفلسطينيّ، وقضيّتِهِ الوطنيّة، ومناهضتِهِ للكيان الصهيونيّ ومخطّطات الإدارة الأمريكيّة المناقضة لمصالح شعوب الأمّة العربيّة.

وبالنسبة لحزب الله، هو قوّةٌ مقاوِمةٌ ولهُ موقفٌ حاسمٌ من وجود الكيان الصهيونيّ وداعم للشعب الفلسطيني ومقاومته، وقد تصدّى ببسالةٍ للعدوان المتواصل على لبنان، ويشكّل قوّةَ ردعٍ له، وأعطى قوّةَ المثل على أنّ الإرادةَ والعزيمةَ والإيمانَ بالحق قادرةٌ على أن تُلحقَ الهزيمةَ بـ "إسرائيل" في الوقت الذي هزمت فيهِ الأخيرةُ جيوشًا عربيّةً عديدة.

 وبشكل عام، الجبهةُ تنحازُ في علاقاتها على الدوام مع حركات التحرّر الوطني وقواها، على أساس معاداة الكيان الصهيونيّ والرأسماليّة العالميّة، وتسعى لأفضلِ علاقاتٍ معها، والعمل على تنظيم ذلك من خلال صيغٍ تتوحّد فيها الجهودُ من أجل الدفاع عن مصالح الأمّة العربيّة وقضاياها المصيريّة.

هل ما زالَ لدى مصر الدورُ المركزي والسيادي ذاته في القضيّة الفلسطينيّة وفي القضايا العربيّة الأخرى؟

الفترةُ الذهبيّةُ لمصر كدولةٍ مركزيّةٍ ذات ثقلٍ سياسيّ، تجلّت في فترة حكم عبد الناصر، حيث كان رمزًا للحركة  القوميّة العربيّة وحاملاً لتطلعاتها وآمالها، وقاد نهضةً صناعيّةً وزراعيّةً شكّلت قلقًا حقيقيًّا لـ"إسرائيل" وقوى الرأسمال العالميّ التي ترى في فكرة "الاستقلال الاقتصاديّ" خطرًا  يجعلُ من مصرَ قوّةً مستقلّةً بقرارِها، وقادرةً على أن تمتلكَ مقوّماتِ الصمود وتطوير ذاتها، ويجعلها قادرةً على مواجهة أيّ خطرٍ تتعرّض له، بما في ذلك خطرُ الكيان الصهيوني الذي يشكّل تهديدًا استراتيجيًّا لمصر ومكانتها، ولذلك جرى التآمر والعملُ على ضرب التَّجْرِبةِ الناصريّة والدولة المصرية، سواءً في عدوان 1956 أو في حرب 1967.

إنّ المشروعَ القوميّ الذي قاده عبد الناصر وجد صدًى واسعًا في المنطقة العربيّة، لكنّه تغيّر عندما تبوّأ الساداتُ سدّةَ الحكم في مصر، الذي اتّخذ منحًى نقيضًا، وعقد اتّفاقات كامب ديفيد مع "إسرائيل" التي بموجبها أصبحت مصرُ مقيّدةً بها.

إنّ إشغالَ مصر في السنوات السابقة بالملف الاقتصاديّ الذي عانى كثيرًا، وبالعمليّات الإرهابيّة، وبقيود الاتفاقيّات الموقّعة معها، أبعدها إلى حد كبير عن الاهتمام بالقضايا القوميّة، وعن محيطها الإفريقيّ الذي يعدّ مجالًا حيويًّا لها.

مؤخّرًا، بدأت مصرُ تستعيدُ دوراً متزايداً في القضايا والشئون العربية، حيث تعطي اهتماماً لما يواجه الشعب الفلسطيني من تحديات، وتتعامل مع القضية الفلسطينية – عدا عن كونها قضية قومية- كقضية أمن قومي لمصر، كما تتابع دورها الذي خولتها به جامعة الدول العربية من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني، عدا عن اهتمامها بما يجري في البلدان العربية، رغمَ انشغالِها بمخاطر بناء سدّ النهضة، واستمرار استهدافها بعمليّاتٍ إرهابيّةٍ لاستنزاف قدراتها، وحصر أولويّاتها على الداخل المصريّ.

 على الرغم من كلّ ما سبق، ومهما كانت الأوضاعُ التي تعيشُها مصرُ إلا أنّها ستبقى القوّةَ المركزيّةَ الأولى في النظام العربيّ الرسميّ، ونأملُ أن تستعيدَ دورَها بما يمكّنُها من إعادةِ الإمساكِ بدورها القوميّ، الذي شهدناه فترةَ جمال عبد الناصر، وهذا ما نتطلّع أن تكون عليه مصر.

تستمرُّ حالةُ التنافس بين الصين والولايات المتّحدة الأمريكيّة، ويبدو أنّ الصين بدأت تغيّر من سياساتها التي كانت تفضل الانعزالَ عن الشؤون الدوليّة، هل يمكن لذلك أن يدفع لتغيرٍ قريبٍ في شكل النظام السياسيّ العالميّ؟

التطوّرُ الاقتصاديُّ والتنامي المتسارعُ   للصين، الذي حقّق نسبةَ نموٍّ غيرَ مألوفة، إضافةً للنموّ التكنولوجيّ الكبير الذي عكس نفسَهُ أيضاً على الصناعات العسكريّة وتطوّرها النوعيّ وغزو الفضاء أربك الإدارةَ الأمريكيّة، وجعل لجنةَ العلاقات الخارجيّة بالكونجرس تقدّمُ قرارًا ينصُّ على أنّ الصين عامَ 2021، باتت منافسًا استراتيجيًّا لموقع الإدارة الأمريكيّة في النظام العالميّ بديلًا لما كانت تنظرُ له الإدارةُ الأمريكيّةُ سابقًا على اعتبار الصين شريكًا استراتيجيًّا.

ما يجري الآن في المحيط الهادي من محاولاتٍ أمريكيّةٍ للتضييق على الصين، سواءً من خلال تحريض تايوان أو هونج كونج، ومحاولات تشكيل جبهة تحالفٍ دوليٍّ ضدّ ما تسمّيه "النفوذ الصينيّ المتزايد" يؤشّر لمدى انزعاج الإدارة الأمريكيّة من الصين، وتهدفُ لإشغالِها عن استمرارِ تطوير قدراتها في المجالات المختلفة، وأعتقد أنّ الاستعراضَ العسكريّ الأمريكيّ في المحيط الهادي هدفُهُ توفيرُ دعمٍ ودفعٍ للقوى المعارضة في هونج كونج وغيرها للتمرّد على الصين.

الصينُ أصبحت قوّةً من الصعب إيقافُها، ومن الوارد جدًّا أن تتقدّم خلالَ سنواتٍ على الإدارة الأمريكيّة، ومن ثَمَّ من الصعب إعادةُ تطويعِها أو التأثيرُ عليها لتستمرَّ قوّةً غيرَ مركزيّةٍ، أو ليست جزءًا من أقطاب العالم، فلو تمكّنت الصينُ من كسرِ الأحاديّةِ الأمريكيّة في قيادة العالم، سينعكسُ ذلك إيجابًا ليس على القضيّة الفلسطينيّة فحسبَ، بل على العديد من بؤرِ التوتّر في العالم.