على صفيحٍ ساخن

حجم الخط

الحلقة التاسعة

 الحلقة المفرغة 
يدور الزمن الفلسطيني المكافح منذ ما يربو على مئة عام، في حلقةٍ مفرغة، وهو يواجه اللحظة الاستعمارية الصهيونية، التي تعيد إنتاج ذات الشروط والعوامل المتكاملة الحلقات في كلِ مرحلة، وكأن الماضي هو الحاضر، من دون أن يفلح في كسر تلك الحلقة، والانطلاق خارجها، أو استكشاف السبيل المؤدي إلى كسرها، أو بالأحرى تلكؤ الذات الفلسطينية في الإمساك بمفتاح خلاصها، الملقى بإهمالٍ أمام ناظريها.

لقد عايش الشعب الفلسطيني مرحلةً تاريخيةً طويلةً وقاسيةً تمتد منذ نهاية الحقبة العثمانية، وما أورثته تلك الحقبة للشعوب التي كانت خاضعةً لحكمها، من تخلفٍ وهشاشةٍ وضعفٍ في البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ومنها المجتمع الفلسطيني، الذي كان قدره أن يواجه مشروعاً استعمارياً من العيار الثقيل، وهو على تلك الحال من الضعف والتخلف، ومنذ ذلك الحين لم يتمكن الزمن الفلسطيني من التحرر من قبضة اللحظة الاستعمارية الصارمة.

كانت النخبة السياسية والاقتصادية التي أنتجتها الحقبة العثمانية في أسوأ أحوالها، وكانت تعكس صراعات العائلات الاقطاعية وانقسامها وتنافسها على الهيمنة، ولم تخفِ بعضها نزعاتها وميولها للتساوق مع اللحظة الاستعمارية، والقبول بحلٍ سياسي يسمح بتمكنها من الهيمنة على القرار الفلسطيني، بيد أن عجز تلك النخبة وتخلفها وإخفاقها في تشكيل قيادة سياسية ووطنية مسؤولة، تتصدى لمهامها الوطنية والتاريخية، أفضى إلى النكبة وضياع فلسطين، وأدى إلى تلاشيها، في ضوء النتائج العسكرية والميدانية والسياسية التي أفرزتها محطة النكبة.

أما المرحلة الفاصلة ما بين النكبة والنكسة، فقد أنتجت واقعاً عربياً مُركباً، ما بين قوىً وأنظمة ثورية، مَثّلها عبد الناصر وشعاراته العروبية الوحدوية، وبين أنظمةٍ وقوىً ونخبٍ معادية للمشروع الناصري، ومتماهيةً مع الاستعمار ومشاريعه الوسطى. وما بين هذا وذاك، كان على الفلسطيني أن يواجه موجات اللحظة العربية العاصفة. وإذا كانت الحقبة العثمانية قد أنتجت نخباً تقليدية. فإن الحقبة الناصرية، التي كانت طاغية على اللحظة العربية في تلك المرحلة، قد شَكلّت حاضنةَ لنمو نخبةٍ فلسطينية، ووطنية وثورية، هيأتها تلك المرحلة، للإمساك بزمام مرحلةٍ جديدة بعد كارثة النكسة العربية الجديدة عام 67.

لقد أخفقت المرحلة الناصرية، في توحيد الذات العربية الممزقة، ووضعت حرب العام 67 حداً لأيةِ محاولة من شأنها أن تعيد إنتاج تلك التجربة. وبذلك انتهت تلك المرحلة، بكل شعاراتها وخطاباتها، ولم يتبقَ منها سوى الأحلام الكثيرة، وأعادت تكريس النزعات الوطنية لكلِ بلد عربي وتعميقها. وساهمت هذه الحالة العربية البائسة، في ولادة الثورة الفلسطينية، ونخبتها السياسية الثورية الجديدة التي لم تلبث أن تَصدّرت المشهد، وأعادت إحياء الهوية الوطنية، وكانت بداياتها واعدة، وهي تعيد تجميع الذات الفلسطينية المُبعثرة تحت سقف منظمة التحرير، ومبلورةً مشروعها الوطني، وعاقدة العزم على المضي قدماً، حتى إنجاز أهدافها الوطنية، في التحرير والعودة، وهزيمة المشروع الصهيوني، لكنها لم تلبث أن انقسمت، إلى شيعٍ وأحزاب وفصائل متصارعة تقدس ذاتها الفصائلية على حساب الذات الوطنية، وجنح البعض منها مبكراً في البحث عن مسار للتسوية، وهو ما أعاد التذكير بمرحلة ما قبل النكبة، فإذا كان الصراع العائلي هو السائد في مرحلة ما بعد النكسة، وإن كان ثمة بيت فلسطيني جديد يُسمى بـ " منظمة التحرير الفلسطينية". فإذا كانت نخبة ما قبل النكبة قد واجهت مشروع التقسيم الأول سنة 1937، والثاني سنة 1947، فقد واجهت النخبة الجديدة مشاريع الحلول السياسية في حدود العام 1967.

ساهمت عملية الخروج من بيروت في أعقاب حرب 1982، في تسريع الخطى نحو مسار التسوية، وهو ما فاقم من حدة الصراع بين الفصائل الوطنية وبدايات تداعي منظمة التحرير الفلسطينية. لتأتي محطة الانتفاضة الأولى، التي سمحت بولادة النخبة الإسلامية وتناميها لتتصدر المشهد بعد سنواتٍ قليلة، ومصممةً على بناء بيت "إسلامي جديد" على أنقاض "البيت العلماني القديم" أي منظمة التحرير الفلسطينية. لقد كانت الانتفاضة الأولى تُمثل فرصةً ذهبيةً لإعادة بناء الذات الفلسطينية المتآكلة، واستيعاب المكّون الإسلامي الجديد، لو صحّت نوايا "القبائل" السياسية المتصارعة على القرار الفلسطيني، ولكان التاريخ الفلسطيني قد دخل حقبةً جديدة، وإن بمساراتٍ متعرجةٍ ومريرة، نحو إنجاز ولو جزءٍ بسيطٍ من الحقوق الوطنية.

بيد أن مسار أوسلو مَثّل لحظةً فارقةً، في الزمن الفلسطيني المتعثر، وساهم في المزيد من الانقسام والتمزق، وبتقويض منظمة التحرير من الداخل، ولم تفلح جهود ثلاثة عقود من المقاربات السياسية الداخلية، في رأب الصدع وإعادة بناء الذات الفلسطينية المتهتكة.

ومن اللافت للانتباه، أن النخبة التقليدية السائدة قبل محطة النكبة، التي كانت تُعوّل على الحلول البريطانية ومؤازرة الأشقاء من الملوك والزعمار العرب، لا تختلف كثيراً عن النخبة التي تُعوّل على الحلول الأمريكية، ومؤازرة "الأشقاء" من الملوك والزعماء العرب في هذه المرحلة، وإذا ما أضفنا إليها تعويل الحركات الإسلامية على إيران وقطر وتركيا وغيرها.

إن اللحظة السياسية المتكررة في كلِ محطةٍ، تكاد تعكس ذات الرؤى والتصورات والأدوات وذات المشاهد.
لقد حل الفصيل / الحزب محل العائلة/ القبيلة، وغدا الحزب هو الغاية والقضية الوطنية هي الوسيلة، وحل مشروع الدولة المركزية الإسلامية مكان الدولة المركزية العربية، وحلت أمريكا مكان بريطانيا، وروسيا مكان الاتحاد السوفيتي، وإيران وتركيا مكان مصر سوريا. 

ولا تزال القيادة العربية، التي نجحت قبل محطة النكبة في اقناع الفلسطينيين بوقف الثورة وانتظار الحلول البريطانية والتعويل عليها، هي ذات القيادة العربية، التي تمارس ضغوطها على الفلسطينيين لوقف المقاومة، وانتظار الحلول الأمريكية ولكن بوجوهٍ ومسمياتٍ جديدة.

إن الحلقة المفقودة في هذه العملية، هي الذات الفلسطينية التي لا تزال ممزقة منذ عشرينيات  القرن الماضي. لكنها هي ذاتها، التي قلبت الطاولة عام 1936، وكادت أن تفشل مشروع الصهاينة، وهي ذاتها التي قلبت الطاولة في أعقاب نكسة 1967، وكادت أن ترغم العدو على الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 على الأقل، لولا استعجالها لتذوق ثمرة السلطة المُحرمة، بتبنيها البرنامج المرحلي، وبحثها عن طرق للوصول إلى التسوية.

إن كلمة السر تكمن في الإطار السياسي الجامع والقوي الذي يُعبّر عن وحدة وطنية حقيقية، تلتقي في الخطاب والرؤى والأهداف وأشكال الكفاح، التي تقتضيها كل مرحلةٍ تحررية؛ فالوحدة الفلسطينية تجر ورائها وحدة عربية في الموقف، وكذلك وحدة في المواقف العالمية، أما الشرذمة والانقسام فتجر ورائها الشرذمة والانقسام في الموقف العربي وكذلك العالمي.

أما الانتظار لما ستسفر عنه الانتخابات "الاسرائيلية"، والتَبّدل في الحكومات، وما ستفسر عنه الانتخابات الأمريكية، والتَبدّل في الإدارات، وما ستسفر عنه التَحولّات الإقليمية والدولية من دون الالتفات إلى الذات الفلسطينية لإصلاح تهتكها وأعطابها، لتمسك زمام قدرها بيدها، فإنه سيبقينا ندور في ذات الحلقة التاريخية المفرغة. وهذه الحلقة ستظل تنتج هبات وانتفاضات وثورات، وأبطالاً وبطولات خارقة بيد أنها لن تفلح في كسر الحلقة المفرغة، ما لم تنهي هذه الحالة المأساوية من التشرذم والانقسام التاريخي، وإعادة التعويل على الذات الفلسطينية، التي سيكون بمقدورها أن تصنع المعجزات، إذا امتلكت شروط الوحدة والذكاء في إدارة الصراع.

كل الثورات العالمية التي حققت انتصارها على أعدائها الأقوياء، انتصرت بجهودها الذاتية بالأساس، من بعد أن أدى تصميمها على تغيير الظروف المجافية من حولها لصالحها، ولكن كان ذلك مشروطا: بخطٍ سياسيٍ سليم، وخطٍ كفاحيٍ سليم، وجبهةٍ وطنيةٍ متحدة.

عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.