ما بين الأسرلة والأسلوة!

حجم الخط

كيف ستتعامل الأجيال القادمة مع الإرث التراجيدي للسياسات الكارثية التي تبنّاها جيل القيادة الحالية؟ تلك السياسات التي أوصلتنا إلى نهاياتٍ قاسية تجسّدت في الانقسام الحاد بعد اختصار المشروع الوطني إلى دويّلة على جزءٍ صغيرٍ من الوطن (مناطق 67) يحتضن مكوّناً واحداً من مكوّنات الشعب الفلسطيني على حساب المُكوّنيْن الآخرين في الشتات ومناطق ال48، مما كشف أعطاب السياسة النخبوية الفلسطينية، ويُصعّب على الجيل الحالي والقادم تجاوز هذه الأعطاب البنيوية التي تستفيد منها فقط منظومة الاحتلال والأبارثهيد والاستعمار، والتي بدورها ترفض التخلي عن سيطرتها على أي جزء بين نهر الأردن والبحر المتوسط. ولا شك أنّ تجاوُز هذه الأعطاب يتطلب مراجعة نقدية حادة تعتمد على الهدم والبناء في نفس الوقت، وبالتالي الوصول لنتائج تتخطى كل هذه التِركة التي فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أيٍ من الأهداف التي انطلقت من أجلها الثورة الفلسطينية المعاصرة من تحرير وعودة، وأي من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بما يشمله ذلك من حقه في تقرير المصير.

لقد قام قرار التقسيم 181 الكولونيالي الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947 بمنح أكثر من نصف مساحة فلسطين للمستوطنين الذين شكّلوا في ذلك الوقت أقل من ثلث سكان فلسطين الانتدابية وتملّكوا أقل من 7٪ منها. وعلى الرغم من ذلك هناك منّا من يفتخر بقبول هذا القرار، إما بتوجيهات "ستالينية" من موسكو أو من خلال مراجعات يمينية متأخرة، وبغضّ النظر عن حقيقة أن قرار التقسيم قد مهّد لإنشاء منظومة أبارثهيد كولونيالي ويتناقض مع الحق الأساسي للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. يتناسى الآن هؤلاء "الواقعيون" الجزء الإضافي الذي قضمته إسرائيل عام 48 تاركة 22% فقط قامت باحتلالها عام 1967. وبالتالي، وتبعاً لمنطق هؤلاء الواقعيين الجدد، فإن إقامة معزل عرقي لثلث الشعب الفلسطيني على هذا الجزء من فلسطين يجسّد الهدف الفلسطيني الأسمى، بل هو ما يسعى له "المشروع الوطني الفلسطيني" كما يعرّفه اليمين العلماني، بموافقة اليسار الستاليني ومؤخراً اليمين الديني، والذي يختزل القضية بنتائج نكسة 1967، حيث يتم التأريخ لها بمعزل عما سبقها وكأنها جاءت خارج السياق الكولونيالي الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية.

والحقيقة أنه من الصعب بمكان الفصل ما بين عملية الأسرلة التي تجري في مناطق ال48 متمثلة بتوجهات الأحزاب العربية التي فازت بمقاعد في انتخابات الكنيست الأخيرة، وعملية الأسلوة التي تجري في المناطق التي تم احتلالها عام 1967، من حيث كونهما خطابين يعبران عن أيديولوجيا تعمل على تدجين العقل والوعي الفلسطيني في فلسطين التاريخية. ومن الواضح أن هناك تشابهاً، ومساراً متوازياً، بين العمليتين، فأسرلة العقل الفلسطيني في مناطق ال 48 تعني عملياً القبول بحكم الإسرائيلي اليهودي الأشكنازي والاعتراف بحقه في السيطرة على فلسطين التاريخية، وبالتالي ضمان تبعية الفلسطيني في هذه المناطق، ما يعني أن أكثر ما يستطيع الحصول عليه هو تحسين شروط الاضطهاد العنصري. أما في حالة فلسطينيي ال67، فإن عملية الأسلوة المرادفة تعني القبول بهيمنة الإسرائيلي الأشكنازي وحقه في السيطرة على 78% من أرض فلسطين التاريخية وأن أفضل ما يمكن الحصول عليه هو قطعة صغيرة منها لا تتخطى 22%، وأنه في هذه المرحلة، فإن أفضل ما يمكن الحصول عليه هو، أيضاً، تحسين شروط الاضطهاد الاستعماري من خلال تقليل عدد الحواجز العسكرية في الضفة الغربية أو العمل على فتح بوابة نقطة تفتيش بيت حانون في غزة، أو زيادة عدد ساعات إمداد الكهرباء للقطاع المحاصر من 6 الى 8 ساعات في اليوم، أو إطلاق سراح بعض السجناء، أو زيادة عدد تصاريح الفلسطينيين الذين يتمكنون من الانتقال من الضفة الغربية إلى إسرائيل.

ومن الواضح أن عمليتي الأسرلة والأسلوة تأتيان كنتاج طبيعي لعملية بناء وعي زائف بالكامل يعبرّ عن مصالح طبقة صغيرة جداً من سكان الأرض الأصلانيين، تتبنى خطاباً مغلفاً بوطنيةٍ زائفةٍ، وفي نفس الوقت إيمان مطلق بأن المقاومة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى دمار الشعب الفلسطيني وتطلّعاته، وبالتالي تشكلان خطاباً معادياً لكل أشكال المقاومة، الشعبية، وغيرها، من مقاطعة دولة إسرائيل والدعوة لفرض عقوبات عليها وعدم القبول بفكرة التعايش مع أشكال الاضطهاد المتعددة التي تمارسها والعمل على عدم إكساب هذه المنظومة أي شكل من أشكال الشرعية.

إن الخدمة الجليلة التي قامت كل اتفاقيات التطبيع بمنحها لإسرائيل منذ نهاية السبعينيات حتى الآن تكمن في المساهمة في ترسيخ الفكرة التي استماتت لعقود في سبيل تطبيعها، ألا وهي أنها ليست دولة استعمار استيطاني، بل استعمار كلاسيكي قامت باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن هذا هو جوهر الصراع. وهنا يكمن الخطر في تبني أحزاب عربية في مناطق ال48 لحل الدولتين العنصري، وتبني نهج الاندماج في الدولة اليهودية بكل قوانينها الأساسية المبنية على نفي الآخر الأصلاني.

في المقابل، فإن مفهوم الدولة الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني لا يتعامل مع دولة إسرائيل كدولة احتلال فقط، تقوم باضطهاد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967، ولا كدولة طبيعية أقيمت عام 1948 حتى عام 1967، بل ينظر إليها كدولة استعمار استيطاني وأبارثهيد منذ عام 1948 حتى يومنا هذا. وبالتالي، فإن أي حل عادل نسبياً يقوم على أساس تفكيك هذه المنظومة المهيمنة بين النهر والبحر وسحب كل الامتيازات التي تتحلى بها مجموعة سكانية لأسباب إثنية-دينية.

عندما قامت منظومة الاستعمار والأبرثهايد بإقرار قانون القومية العنصري والذي يأخذ الصراع إلى أقصى مداه، من حيث إنكاره الكامل للشعب الفلسطيني، بالذات حقه في العودة إلى القرى والمدن التي طهر منها عرقياً عام 48، كان يتوجب علينا في فلسطين التاريخية الإصرار على تطبيق قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة 194، وأن يكون هذا القرار نقطة الانطلاق لأي مفاوضات أو حوارات قادمة. كان علينا أن نوصل تلك الرسالة للوسيط غير النزيه، وربط ذلك بموقف مبدئي لا يتزحزح في حقنا في تقرير المصير، أي التمسك بحل يعتمد على الحقوق ومن ثم دمج ذلك برؤية سياسية خلاقة.

في الثلاثين سنة الأخيرة، أي بعيد توقيع اتفاقيات أوسلو، كان هناك محاولات حثيثة لإعادة هندسة الوعي الفلسطيني والعمل على إعادة تعريف الشعب الفلسطيني ومفهوم الوطنية وحتى الجغرافيا. فبالإضافة لجعل "الأمن" قضية مركزية توازى ذلك مع العمل على إعادة الهندسة الاجتماعية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة وخلق طبقات جديدة تسند التوجهات السياسية الجديدة. ولا شك أن تحول البرامج النضالية الأساسية في تشخيصها للقضية الفلسطينية من خطاب مقاومة ضد استعمار استيطاني على أرض فلسطين التاريخية إلى خطاب مقاومة احتلال عسكري للضفة وغزة هو انعكاس لقصور فكري و كفاحي بامتياز.

ويبرز هنا السؤال المحوري حول آلية التوفيق بين "نضالنا" من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة من ناحية، وكفاحنا ضد نظام الأبارثهيد المتواجد بين نهر الأردن والبحر المتوسّط من ناحية أخرى؟

من أهم ثيمات أدبيات المقاومة، كما جسدها أدب غسان كنفاني بالذات، محاولة علاج الفلسطيني من عجزه ومن ثم تحرره مما يخضع له من قيود فرضها المُستعمِر الغاصب عليه، بمساعدة وتعاون من يمثل الوعي الزائف من المُستعمٓر، وبالتالي لا يمكن الوصول لمرحلة الشفاء من عصاب الاستعمار والوعي الزائف إلا من خلال المواجهة والرفض والمقاومة، عندها فقط يقوم المُستعمَر المُضطهَد بإعادة تشكيل هويته ومعرفة نفسه من خلال الفعل الثوري الذي يؤدي في المحصلة النهائية لولادة الفلسطيني الجديد.

إن أحد أهم الدروس من النضال في جنوب إفريقيا ضد نظام الأبارثهيد في القرن المنصرم هو أن الحركة المناهضة للنظام، قامت بالتركيز في آخر عقدين من نضالها على كسب المعركة الأخلاقية وتحدي النظام، حيث لم يكن من الممكن حسم المعركة عسكرياً بشكل نهائي، بسبب الخلل الهائل في موازين القوى بين المُضطِهِد العنصري و المُضطهٓد الأسود، في حين أن المعركة الأخلاقية كان يمكن حسمها.

الفلسطيني المدافع عن نظام البانتوستانات ومطار صغير تحت سيطرة إسرائيل، ووعد منها بميناء صغير، والسيطرة على خدمات البلديات والتعليم، مع التعامل مع عودة اللاجئين كقضية مستحيلة التحقيق، والفلسطيني الذي يعتبر حصوله من السيد الأشكنازي الأبيض على تصريح بناء في قرية عربية غير معترف بها ووعد بزيادة الميزانيات المخصصة للمجتمع العربي وتحسين شروط القهر العنصري، ما هما إلا نتاج انزياحات تاريخية في الوعي الوطني الفلسطيني: الأسرلة والأسلوة.