من دَواعي الحرب في أوكرانيا

حجم الخط

عالم رأسمالي أحادي القطب أو متعدد الأقطاب

يُشكّل النظام الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة ومجموعة السبعة (G7) والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو) وصندوق النقد الدولي قُطْبًا للهيمنة العسكرية والمالية والسياسية، تدعمه القوى الإقليمية وأنظمة الكمبرادور العميلة، وتقود الولايات المتحدة هذه الكتلة لأنها الأقوى عسكريا، ولديها أكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم، فيما تنتشر عشرات القواعد العسكرية لأعضاء حلف شمال الأطلسي، وبالأخص بريطانيا وفرنسا، في إفريقيا وآسيا، لتنسيق الاعتداءات ونهب الثروات واستغلال الموارد وتنظيم الانقلابات، وعلى سبيل المُقارنة، بلغ الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها الرئيسيين 1,250 تريليون دولار سنة 2021، بينما بلغ الإنفاق العسكري للصين 293 مليار دولار وروسيا 65,9 مليار دولار.

أسست الصين وروسيا ، في بداية القرن الواحد والعشرين مجموعة "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) وكان هدفها اقتصاديًّا، وهي ليست مناهضة للرأسمالية، بل على العكس من ذلك، فهي تدعو إلى احترام القواعد التي تفرضها الرأسمالية الليبرالية: حرية الاستثمار وإنجاز المشاريع "الحرة"، وحرية حركة رأس المال والسلع، وتعارض دول هذه المجموعة الهيمنة الأمريكية المطلقة، وعرقلتها لحرية التجارة والاستثمار، وتقترح عالمًا متعدد الأقطاب، بدلاً من عالم أحادي القطب، تهيمن عليه وتقوده الولايات المتحدة، خدمة لمصالح المصارف والشركات الأمريكية، وتدافع مجموعة بريكس، التي تضم ما يقرب من 50% من سكان العالم، عن مشروع نظام متعدد الأقطاب يتم تسييره أفقيًا، بمشاركة جميع الأعضاء، وله أدوات تمويل، منها صندوق نقدي في خدمة أعضائه، في مواجهة الهيمنة المطلقة للدّولار ولأدوات الأمريكية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ويمكن للدول الأعضاء في مجموعة "بريكس" الاقتراض بالعملات المحلية أو عملات أخرى غير الدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني أو الين، ما يعني، على المدى المتوسّط، نهاية هيمنة الدولار على النظام المالي الدولي، لأن المصارف تخضع والشركات والدول التي تستخدم الدولار تخضع للقانون الأمريكي الذي يمكن أن يُصدِرَ عُقوبات ضد من يُخالف القوانين الأمريكية التي توسّع نطاق نفوذها إلى جميع دول العالم، ولذلك أنشأت مجموعة بريكس مصرف التنمية الجديد الذي يهدف مساعدة الدول الأعضاء على تنفيذ مشاريعها الاقتصادية.

تتنزل الحرب في أوكرانيا ضمن هذا الإطار، فما هي سوى جانب واحد من جوانب المعركة السياسية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية، للحفاظ على النظام العالمي أحادي القطب، وعرقلة محاولات استبداله بعالم متعدد الأقطاب، ولو كان كلاهما رأسماليًّا.

زادت عربدة الولايات المتحدة، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وسّعت نطاق تهديداتها ليشمل العديد من الدول ( زيادة عن إيران وكوبا وكوريا الشمالية) منها سوريا وفنزويلا، فضلا عن احتلال أفغانستان والعراق وتدمير ليبيا وتقديم الدّعم المُطلق للكيان الصّهيوني والأنظمة الدّكتاتورية، بالإضافة إلى دول أخرى ليست بالضرورة معادية لحلف شمال الأطلسي أو الولايات المتحدة وأوروبا، وأدّت العجرفة الأمريكية وابتزاز دول خاضعة مثل السعودية ودُوَيْلات الخليج، إلى تطوير العديد من الدول والحلفاء التقليديين للولايات المتحدة مثل السعودية والإمارات وتركيا والبرازيل و مصر والعديد من الدول الأفريقية الأخرى علاقاتها مع روسيا والصين، دون قطع العلاقات مع الولايات المتحدة أو أوروبا أو اليابان، وأصبحت مجموعة "بريكس" ومنظمة شنغهاي للتعاون تجتذب دولًا جديدة مثل الأرجنتين وإيران والجزائر وإندونيسيا، ما يمكن تأويله كبداية تراجع لهيمنة الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، خصوصًا بعدما تأكّد أن دول حلف شمال الأطلسي لا تهدف إلى "تحرير" أوكرانيا بل تريد القضاء على الاقتصاد والقوة العسكرية لمنافسيها، وتركيع روسيا في البداية (بحسب تعبير وزير خارجية ألمانيا) ثم الصين، لأنهما تُعتَبَران من ركائز نظام عالمي جديد أو قطب رأسمالي جديد يهدف إنهاء هيمنة الدولار، وأصبح سياسيو دول حلف شمال الأطلسي ورموز الإعلام السّائد يُقدّمون روسيا والصين كأعداء ولم يعودا مُنَافِسَيْنِ، وقد يكون ذلك مُقدّمة لإعداد الرأي العام للحرب ضد هاتين الدولتين ودول أخرى أيضًا.

إن السبب الرئيسي لاستفزاز روسيا على حُدُودها، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وتغيير النظام في جورجيا وأوكرانيا، وتوسيع حلف شمال الأطلسي وحشد قواته العسكرية في بولندا والمناطق المجاورة لروسيا ثم انطلاق الحرب في أوكرانيا، هو الحفاظ على (أو تعزيز) النظام العالمي الحالي، أحادي القطب، وقد يُشكل انتصار روسيا في أوكرانيا علامة فارقة في ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، لذا تبذل الولايات المتحدة ما في وسعها للحيلولة دون ذلك، لأن انتصار روسيا يأذن بإعلان بداية النهاية للهيمنة الأمريكية، لأن روسيا تلعب دورًا رائدًا، مع الصين، في منظمة "بريكس"، وكذلك في منظمة شنغهاي للتعاون التي تم إنشاؤها سنة 2001 وتضم الهند وباكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وزادت القوة الاقتصادية المشتركة لبلدان منظمة شنغهاي للتعاون سنة 2021، حوالي 13 مرة منذ إنشائها، وبلغت تجارة الصين مع أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون 343,1 مليار دولار، بزيادة قدرها 40% وتضاعفت التجارة الخارجية لأعضاء منظمة شنغهاي للتعاون بمقدار 100 مرة خلال عشرين سنة، ما اجتذب مرشحين جددًا مثل إيران وبيلاروسيا ومصر والسعودية ودُوَيْلات الخليج وجزر المالديف وميانمار وحتى تركيا، وهي عضو مهم في الناتوما يُوضّح قوة جذب هذه المنظمة التي تمكّنت من خلق ثقل آسيوي موازي للنفوذ "الغربي" ومؤسساته، وفقًا لتحليل وكالة بلومبرغ (17 أيلول/سبتمبر 2022).

تُشكل منظمة شنغهاي للتعاون جزءًا من مشروع صيني أضْخَمَ، يشمل كذلك "الحزام والطريق" الذي أطلقته الصين، منذ سنة 2013، بعدما أعلن الرئيس "الديمقراطي" باراك أوباما ووزيرته للخارجية "هيلاري كلينتون" حشد 60% من القوة البحرية المُسلحة الأمريكية ( محور الجيش الأمريكي) في المَمَرّات البحرية التي تستخدمها الصين في عمليات التبادل التجاري مع العالم، وجعلت الصين من مشروع "الحزام والطّريق" ممرًّا للنقل البري والبحري والحديدي، وطريقًا تجارية دولية بين آسيا وأوروبا، مرورًا بسواحل إفريقيا، بمشاركة فعّالة من روسيا والهند وإيران ودول غربي وَوَسط آسيا، ثم باكستان وأفغانستان لاحقًا، وتتعاون هذه الدّول من أجل تنمية التجارة، وكذلك التكامل الأمني.

إن العدوانية الأمريكية تجاه روسيا، بذريعة الحرب في أوكرانيا، وتجاه الصين، بذريعة تهديد تايوان، فضلاً عن لازمة "حقوق الإنسان"، هي رد فعل وحشي للرأسمالية الأمريكية والأوروبية، في مواجهة المنافسين، لأن الرأسمالية تلجأ دائمًا إلى الحرب لحل أزماتها ومشاكلها، وتلجأ إلى تهديد الدول التي لا تمتثل لمطالبها، كما هو الحال اليوم مع كوبا وفنزويلا وروسيا وكوريا الشمالية والصين وإيران ودول أخرى ...

الحرب كأداة لحل الأزمات الرأسمالية

يشكل الإنفاق العسكري إحدى القواعد الرئيسية للنظام الاقتصادي الأمريكي الذي تم بناؤه حول ضخامة الميزانيات العسكرية التي كانت عالية جدًّا خلال الحرب الباردة، وزادت ارتفاعًا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، خلافًا لما كان مُنْتَظَرًا. إن التحالف بين جهاز الدولة الاتحادي وشركات الأسلحة مَدْرُوس ومنسق ومَنْهَجِي وغير قابل للتجزئة، ضمن التحالف العضوي بين السلطة السياسية والمُجَمّع الصناعي العسكري.

هناك اندماج كامل بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ويشكلان وحدة واحدة، لا تتجَزّأ، فتستخدم الولايات المتحدة حلف الناتو للتهديد بالحرب أو إعلانها، بهدف تفادي أو مُعالجة الأزمات ولإنقاذ الرأسمالية، وهكذا تم تصنيف روسيا والصين على أنهما تُشكّلان تهديدًا لدول حلف شمال الأطلسي، وفقا للمُقتَطفات التي نُشِرت من مَضْمون "الوثيقة الإستراتيجية للناتو"، المؤرخة 30 حزيران/يونيو 2022، وبناءً عليه قرر الناتو زيادة عدد جنود قوة الرد السريع الخاصة به بمقدار ثمانية أضعاف، وعلاوة على ذلك، فإن بيع الأسلحة الأمريكية لأوكرانيا بواسطة القروض الضخمة التي أقرها مجلس النواب الأمريكي، يجعل من أوكرانيا "دولة فاشلة" في حالة تبعية دائمة، وتخضع للإملاءات الأمريكية، بغض النظر عن نتيجة الصراع الحالي، ف"المساعدة العسكرية" تهدف قبل كل شيء إلى إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا وإنشاء نظام كمبرادور بها خاضع للإمبريالية الأمريكية وصندوق النّقد الدّولي، مثل نظام بوريس يلتسين، خلال انهيار الاتحاد السوفييتي، وتتعامل الولايات المتحدة مع أوكرانيا كعضو في حلف شمال الأطلسي، حتى قبل التصويت على العضوية، حيث شملت "المساعدات" العسكرية الضخمة، كميات كبيرة من الأسلحة، وتدريب الجيش، والإشراف على استراتيجيته، وتطوير خبراته في مجال الاستخبارات البشرية والتكنولوجية، وتقوم الولايات المتحدة بتجارب الأسلحة البيولوجية في أوكرانيا، بعيدًا عن الأراضي الأمريكية، وبتوفير الوسائل التقنية لهيئة الأركان العامة الأوكرانية التي لا تمتلكها سوى جيوش أعضاء التحالف حصريًّا.

أوردت وسائل الإعلام تصريح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، خلال قمة مدريد (28-30 حزيران/يونيو 2022) "إن الناتو كان يستعد لهذه الحرب ولمواجهة روسيا، منذ سنة 2014 (انقلاب 23 شباط/فبراير 2014 ضد نظام منتخب ديمقراطياً) وعَزّز الحلف مواقعه العسكرية على الحدود الروسية واستثمر المزيد من الأموال وبدأ في فرض عقوبات أملاً في أن تتسبب في انهيار الاقتصاد الروسي وإسقاط نظام فلاديمير بوتين وإضعاف الدولة الروسية بشكل دائم"، وهو تصريح لا يحتاج تفسيرًا ولا تعليقًا.

يمثل النضال من أجل كَسْر شوكة الإمبريالية الأمريكية وأدواتها، وحل حلف شمال الأطلسي، مرحلة في النضال ضد الإمبريالية وعملائها المحليين، المتحالفين مع الصهاينة بالسبة للعُملاء العرب، ولكن ليس بهدف إرساء عالم رأسمالي متعدّد الأقطاب، بدل القُطْب الواحد، بل بهدف وضع حدّ للنظام الرأسمالي الذي يُبَرّر التفاوت الطّبقي – وهو الذي ولد الإمبريالية - ولشركاته الاحتكارية التي تنهب ثروات الشعوب وتستغل العاملين والمُستهلكين، وجُيُوشه الغازية، وبهدف إرساء نظام محلي وإقليمي وعالمي عادل، يُمكّن الشعوب من التّحرّر ومن تقرير مصيرها، وتتساوى فيه حقوق الشّعوب وينتهي في ظله الاضطهاد القَومي والاستغلال الطّبقي...