في الذكرى (55) لانطلاقتها: الجبهة الشعبية تؤكد على استراتيجية تحرير كامل فلسطين وتهيل التراب على البرنامج المرحلي ونهج التسوية

حجم الخط

في هذه الذكرى نستذكر تاريخ حافل بالنضال على مدى 55 عاماً، والذي شكلت خلاله الجبهة بشكل رئيسي إلى جانب بقية فصائل المقاومة، الرد الفعلي على هزيمة 1967 من خلال استنادها إلى استراتيجية صارمة، تؤكد على هدف التحرير لكامل التراب الوطني الفلسطيني وفق تحديد دقيق لمعسكر الأصدقاء والحلفاء ومعسكر الأعداء. ومن خلال هذه الاستراتيجية وفي إطار القيادة الجماعية، شكلت الجبهة الشعبية علامة فارقة في الكفاح الوطني الفلسطيني، من خلال مئات عمليات المقاومة في طول فلسطين وعرضها التي جمعت بين الكم والكيف، وتقديمها مئات الأسرى والشهداء والجرحى، ما أذهل العدو الصهيوني لدرجة اعترف فيها وزير الحرب الصهيوني موشي ديان بمدى خطورتها في الضفة والقطاع، وفي الذاكرة اعترافه بأن (إسرائيل) تحكم قطاع غزة في النهار والجبهة الشعبية تسيطر عليه في الليل.

والجبهة منذ انطلاقتها كانت واضحة في بنيتها الطبقية المستندة بشكل رئيسي إلى العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين والعضويين، ناهيك أنها في برامجها وقراءتها للأوضاع السياسية الفلسطينية والعربية والدولية، استندت لأيديولوجية الاشتراكية العلمية. ويسجل لها أنها في إطار التزامها الأيديولوجي، لم تعارض الجانب القومي بالجانب الأممي كما فعلت بعض الأحزاب الشيوعية، وفق طرح علمي لها بأن الأممي الصحيح هو القومي التقدمي الصحيح، فالجبهة الشعبية رغم التزامها أولاً بالماركسية ال لينين ية واسترشادها بها لاحقاً إلا أنها لم تغادر نهجها القومي العربي التقدمي، وعرفت كيف تجسر العلاقة بين الطرح الأممي والقومي في إطار ربط جدلي محكم بينهما.

المراجعة النقدية

يسجل للجبهة الشعبية استعدادها للاعتراف ببعض الأخطاء التي وقعت فيها عبر مسيرتها النضالية، وذلك في إطار تفعيلها لمبدأ "النقد والنقد الذاتي"، واستعدادها للتخلي عن بعض التكتيكات النضالية بعد أن حققت أهدافها، واستبدالها بتكتيكات أخرى تخدم الاستراتيجية العامة للجبهة. كما يسجل لها قدرتها على إجراء مراجعات نقدية لمواقفها في مختلف المحطات وعلى مختلف الصعد، ففي مؤتمرها المؤتمر الثامن – كما قال نائب الأمين العام  للجبهة الشعبية القائد جميل مزهر في كلمته في ذكرى الانطلاقة في ساحة الكتيبة بمدينة غزة – "وقفت الجبهة مع ذاتِها وقفة جدية وخاصّة أمامَ برنامجِها السياسي، وأزاحت في هذا المؤتمر الخيار المرحلي عن الطاولةِ واعتبرته بوابةً للتنازلات، وعادت إلى خيارِها الاستراتيجي فلسطين كل فلسطين، وأنها تمضي بمسيرةِ الكفاحِ والمقاومة، ترسم معالم عام مضى، وعام جديد من الكفاح مؤكدة أن لا حلول ولا تسويات ولا مفاوضات، فإما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل".

الجبهة تجدد شبابها في مؤتمرها الثامن

تحتفل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومعها جماهير الشعب الفلسطيني، بالذكرى (55) لانطلاقتها في ظل معطيين أساسيين هما: (المعطى الأول) هو أن الاحتفال يتم في ظل الدور المقاوم  الفاعل لها في الضفة الغربية وسعيها لتطوير هذا الدور، ودورها الأساسي في غرفة العمليات المشتركة في قطاع غزة، ودورها المركزي في التصدي لنهج السلطة الأوسلوي والتنسيق الأمني المرتبط به، هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى يتم الاحتفال بهذه الذكرى بعد ستة شهور على اختتام أعمال المؤتمر الثامن للجبهة الشعبية وما أسفر عنه من نتائج نوعية على الصعيدين الوطني والتنظيمي.

ويمكننا القول من واقع قراءة التقرير السياسي والتنظيمي الصادر عن المؤتمر الثامن للجبهة والبيان الختامي الصادر عنه، أن الجبهة الشعبية جددت نفسها، وجددت شبابها إن على صعيد الفكر الاستراتيجي المقاوم، أو على صعيد البعد التنظيمي الذي يشكل الرافعة لمجمل نضالات الجبهة الشعبية على غير صعيد.

ولا يتسع المجال هنا للتوقف تفصيلياً أمام نتائج مؤتمر الجبهة، بل نشير إلى بعض المسائل التي تضع المتابع في صورة النتائج الإيجابية للمؤتمر، فالمؤتمر ضمنياً تخلى عن الطرح السابق "حل الدولة" الذي هو في التحليل النهائي حل تسووي، وعاد ليؤكد على ثوابت الاستراتيجية الأولى للجبهة عام 1968 والتي تؤكد على تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، وربط موضع الدولة الديمقراطية بالتحرير الكامل للوطن  وفق النص الحاسم التالي:

"استناداً لرؤية الجبهة لطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، وحقيقة هذا الكيان وجرائمه المستمرة التي أسقطت كل أوهام التصالح أو التسوية معه، بما فيها اتفاقيات أوسلو والتزاماتها السياسية والأمنية والاقتصادية، وقف المؤتمر أمام البرنامج السياسي للجبهة ليؤكد على الخيار الاستراتيجي بتحرير فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني".

وهذه الاستراتيجية بحاجة لمسألتين لإنجازها، هما البعد الفكري والطبقي، والبعد التنظيمي ويسجل للجبهة الشعبية مجدداً، أنها في مؤتمرها لم تفقد رأسها الأيديولوجي مثلما حصل للعديد من الأحزاب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، بل عادت لتؤكد في هذا المؤتمر كما في المؤتمرات السابقة على التزامها بالماركسية اللينينية، وعلى هويتها الطبقية من خلال النص التالي: "جددت الجبهة تأكيدها على هويتها الطبقية والفكرية التقدمية، ومواصلة تبني هموم أبناء شعبنا بشكل عام، والكادحين والفقراء منهم بشكل خاص باعتبارهم أصحاب المصلحة بالتحرير، بما يُمكّن حزبنا من توفير القدرة في كل الظروف على مواصلة المقاومة ودعمها وإعادة الاعتبار للبعد الجماهيري والشعبي للانتفاضة".

أما البعد التنظيمي الحاسم الذي يشكل الرافعة للنضال السياسي والمقاوم والحارس لمجمل استراتيجية الجبهة، فتمثل في (أولاً) في استمرار قيادة الجبهة في تقديم النماذج الديمقراطية بالتخلي عن المراكز القيادية الأولى، التزاماً بالنظام وتغليباً للديمقراطية، حيث تخلى معظم أعضاء المكتب السياسي للجبهة عن مواقعهم التنظيمية، لإتاحة المجال لدماء جديدة في جسم التنظيم، دون أن يتخلوا عن دورهم النضالي الموكل إليهم على الصعد السياسية الوطنية والقومية، وتمثل (ثانياً) في نسب التجديد في المواقع التنظيمية للحزب التي تعكس تجديد حيويته والحفاظ على هويته الشبابية والطبقية، إذ بلغت نسبة التجديد في اللجنة المركزية العامة 53%، ومتوسط أعمار العضوية فيها 55 عاماً، وبلغت نسبة التجديد في أمانة سر اللجنة المركزية العامة 100%، ومتوسط أعمار عضويتها 48 عاماً، وبلغت نسبة التجديد في المكتب السياسي 75%، ومتوسط أعماره 60 عاماً، وبلغت نسبة التجديد في لجنة الرقابة المركزية 44%، ومتوسط أعمارها 59 عاماً، وبلغت نسبة التوسع في عموم العضوية بالحزب 45%، ونسبة العمال 47%، والمرأة 25%، والشباب 61%، والمزارعين 13%، والمهنيين 22%.

الانتفاضة المسلحة والجماهيرية

 أما المعطى الوطني الرئيسي الآخر، فيتمثل في النهوض الوطني الثوري الجماهيري والمسلح في الضفة  الغربية، وغير المسبوق  منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، والذي بات يقطع بشكل نهائي  مع خيار التسوية الأوسلوي البائس، أو مع  أي خيار تسووي آخر، والذي يعبر عن نفسه بانتفاضة تجمع بين البعدين المسلح والجماهيري المقاوم، وبتبلور قوى مقاومة جديدة، مثل عرين الأسود وكتائب جنين ونابلس وطوباس و الخليل وغيرها، التي هي في تركيبتها تشكل حالة جبهوية ميدانية تضم كوادر وعناصر، لها انتماءاتها مع فصائل المقاومة الرئيسية. وهذه الانتفاضة من خلال المواجهة المتصلة مع قوات الاحتلال، والاشتباك عسكرياً معها ومن خلال  بيانات القوى الثورية الصاعدة، تستفيد من تجربتي الانتفاضة الكبرى، انتفاضة الحجارة ( 1987- 1993) التي جرى إجهاضها عبر اتفاقيات أوسلو (1993)، وانتفاضة الأقصى (2000-2006) التي تم إجهاضها من خلال تفاهمات "ميتشيل- تينيت" وخطة خارطة الطريق (2003) ومؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب (2006). وهذه الاستفادة تمثلت في القطع نهائياً مع نهج التسوية، وفي التأكيد على هدف تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، وفي تكامل ساحات الفعل المقاوم في الضفة والقطاع ومناطق 1948، وفي بروز قيادات ميدانية بعيداً عن ترف الصالونات السياسية، وذلك بعد أن أدرك شعبنا في معمعان المعارك الوطنية ومن خلال التجربة الحسية اليومية، أن نهج المفاوضات والمساومات شكل غطاء للتهويد والاستيطان ولعمليات البطش والتنكيل بأبناء شعبنا. فاستمرار عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المُحتلة، بشكل متصاعد كماً ونوعاً واعتراف دوائر العدو الصهيوني الأمنية، بأنها أمام انتفاضة نوعية جديدة يصعب السيطرة عليها على الرغم من القبضة الحديديّة التي تمارسها، وعلى الرغم من دفعها ب (25) كتيبة من القوات البرية و (16) سرية من ما تسمى بحرس الحدود، بمُساعدةٍ من الأجهزة الأمنية التابِعة للسلطة الفلسطينيّة، باتت تقض مضاجع دوائر صنع القرار الأمني والسياسي في كيان الاحتلال، إذ أن كبار المسؤولين في جيش الاحتلال يُحذرون من أن نشاط الجيش في مُهمات وأد المقاومة الفلسطينية تستنزفه إلى حد كبير، وتحوله إلى شرطةٍ تقوم بفرض الأمن والنظام وذلك على حساب التدريب والتأهيل المطلوب له، استعداداً لمواجهة حرب قادمة مع أطراف محور المقاومة، كما أن الدوائر الأمنية بات ترى أن استمرار الانتفاضة بهذا الزخم تخلق في ظل وحدة الساحات أزمة وجودية للكيان الصهيوني.

المهام الراهنة

وفي ضوء هذين المعطيين تنتصب أمام الجبهة الشعبية وعموم فصائل المقاومة عدة مهمات مركزية، أبرزها:

أولاً: توفير كافة سبل الدعم للانتفاضة الراهنة في الضفة الغربية ودعم تشكيل قيادة موحدة لها من القاعدة إلى القمة.

ثانياً: العمل على إفشال اتفاقيات أوسلو ميدانياً، والتصدي لنهج التنسيق الأمني الذي يؤمن التعاون مع سلطات الاحتلال لإنهاء الانتفاضة والمقاومة.

ثالثاً: ربط إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية وفق مبدأ التمثيل النسبي، ببرنامج المقاومة بعيداً عن مفردات المفاوضات ونهج التسوية البائس.

رابعاً: بناء جبهة مقاومة من الفصائل التي تؤمن بنهج المقاومة لتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.

خامساً: التأكيد على العمق الشعبي العربي للقضية الفلسطينية، والعمل على توثيق التحالف مع محور المقاومة بوصفه الظهير الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية.

سادساً: مواصلة العمل من أجل "إقامة جبهة عربية لمقاومة التطبيع والتصفية" وهو الهدف الذي أكدت عليه الجبهة في الذكرى (54) لانطلاقتها.