السعوديّة: هل الطموحُ السياسي يتلاءمُ ومستوى التحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة؟

حجم الخط

حازت الدولةُ "السعوديّة" التي تأسّست عام 1932، بعد حروبٍ وصراعاتٍ تاريخيّةٍ قبليّةٍ دامية، على أهمّيتها الاستراتيجيّة في المشاريع والمخطّطات الإمبرياليّة ليس فقط لما تحتويه من مخزونٍ هائلٍ من الثروات الطبيعيّة، وفي مقدّمتها النفطيّة، بل باعتبارها مكوّنًا أساسيًّا أصيلًا للقوميّة العربيّة، ولما تمثّله أيضًا من الناحية الدينيّة، كونها أرض المنشأ للدين الإسلامي، أحد أهمّ ما يعرف، بالديانات "السماويّة". ولا بدّ أيضًا من التنبيه أنّه عندما تأسّست هذه "الدولة - المملكة" الجديدة لم تكن قد نضجت واكتملت شروط تكوينها الطبقي بشكلٍ طبيعي؛ أي لم تولد من رحم التطوّر الاجتماعي الاقتصادي لشبه الجزيرة العربيّة، خاصة في منطقتين أساسيتين هما نجد والحجاز، لهذا أخذت تسير موضوعيًّا في الطريق والاتجاه الذي حُدّد لها مسبقًا من قبل "خالقيها" لخدمة مصالحهم، وأطالت أمد نفوذهم وزيادة درجات استغلالهم لثروات المنطقة واستعمال جغرافيّتها الاستراتيجيّة في الصراعات الكونيّة التي يفتعلوها ويتبوّؤون إدارتها. وممّا لا شكّ فيه أنّ بريطانيا والإمبرياليّة، والنظام الرأسماليّ بشكلٍ عام باحتلالهم للوطن العربي، ومن ثمّ تقسيمه لدويلاتٍ تابعةٍ للمركز، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين؛ استطاعوا إجهاض العوامل وتدمير الشروط التي نضجت تاريخيًّا لتحقيق الوحدة التاريخيّة للأمّة العربيّة؛ أي تلك التي نمت وتطوّرت في أحشاء الإمبراطوريّة العثمانيّة، وكانت قائمةً بعد تحلّل الإمبراطوريّة العثمانيّة وسقوطها.

المملكة التي أُنشئت وكانت في الجوهر "مملكة القبيلة" المتخلفة، الخادم الأمين والأفضل لسيدها، الغرب "المتحضر". دولة دون مؤسّساتٍ أو خططٍ للتنمية والتطوّر، باختصار دولة دون "دولة". لكن، بما أنّ "المجتمع السعودي" مجتمعٌ عريقٌ وحيويٌّ لم يفقد عوامل تطوّره، رغم تعثّرها، استطاع - كغيره من المجتمعات - أن يسير وفق قانون تحوّل التراكمات الكميّة إلى التراكمات النوعيّة التي تفرض نفسها في العودة للمسار التاريخي الأصيل، وما نشهده في هذه المرحلة من مؤشّراتٍ ودلائل على انتقال المجتمع السعودي إلى طورٍ نوعي أعلى هو تأكيدٌ لهذه الحقيقة. وانسجامًا مع الحقائق الموضوعيّة القائمة يمكن الاستشراف أنه تحت تأثير عوامل كامنة، أن "يحرف" هذا الطور السعوديّة عن المسار المرسوم لها سياسيًّا، إلى مسارٍ آخر تفرضه ضرورات التطوّر والتحوّلات التاريخيّة المحليّة والإقليميّة والدوليّة. فقد ترافق التراكم الهائل لرأس المال المالي خلال العقود الماضية مع الرغبة الجامحة في امتلاك العلم والمعرفة لفئاتٍ وشرائحَ اجتماعيّة من الأجيال الجديدة الشابة، خاصّة من العائلة الحاكمة، وتواصل ذلك مع ترابط مراحل النمو إلى نشوء جيلٍ "مثقّف" سياسيًّا واقتصاديًّا يقوده التكنوقراطيّون الذين ينتمي لهم ولي العهد محمد بن سلمان صاحب "رؤية السعوديّة 2030" ومهندسها، التي هي عبارةٌ عن خططٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ ورياضيّةٍ وعلميّةٍ شاملةٍ تهدفُ إلى إحداث نقلةٍ نوعيّة، بل "قفزة" كبيرة في مجالات المجتمع والدولة وقطاعاتهما كافةً خلال أربعة عشر عامًا، وخاصّة، وهذا الأهم، إحداث تغيراتٍ جذريّة في البنية التحتيّة الاقتصاديّة والتكنولوجيّة الصناعيّة التي ستؤدّي - إذا ما تحقّقت وتكلّلت بالنجاح - إلى تشكيل بناءٍ عام فوقي فكري سياسي ثقافي لم يشهده المجتمعُ السعودي من قبل.

إنّ الصهيونيّة والإمبرياليّة، وخاصّةً الأمريكيّةَ لا يروق لهما هذا النمط من التفكير ولا هذا النهج التطويري الذي سينقل السعوديّة من دولةٍ متخلّفةٍ اجتماعيًّا، وتابعةٍ اقتصاديًّا وسياسيًّا إلى دولةٍ حديثةٍ متطوّرةٍ مستقلّةٍ وذات سيادة. لذا ستعملُ هذه القوى على عرقلتها وعدم توفير عوامل نجاحها ووسائله، بل ستعمل على إفشالها لضمان استمرار مزيدٍ من الرضوخ السعودي للإرادة الأمريكيّة واستراتيجيّتها. ولكن، وعلى ما يبدو، أخذ ولي العهد محمد بن سلمان، يدرك هذه الحقيقة "المُرّة" من خلال تجربته الذاتية مع "أصدقاء" بلاده التاريخيّين، حيث أكّد في أكثر من مناسبة "أنّ السعوديّة تمتلكُ العوامل والإمكانات كافةً، وخاصّةً الماليّة، التي هي ضروريّةٌ من أجل تحقيق نجاح الرؤية السعوديّة التي هي رؤيةٌ سعوديّةٌ بحتة، وبإرادةٍ سعوديّة"، ويعبّر عن إصرارٍ قوي لتنفيذ "رؤيته" وهو يدرك تبعات ذلك الإصرار؛ لأنّه - وبلا أدنى شكٍّ - أصبح مستقبله (على اعتبار أنه الملك المقبل) بل ومستقبل السعوديّة نفسها؛ سيعتمدُ على نجاح أو فشل هذه "الرؤية". لذا لم يحتمل تلكّؤ المملكة المتّحدة (بريطانيا) في تنفيذ ما جاء في البيان المشترك الصادر في 10 آذار عام 2018 الذي صدر على إثر زيارةٍ قام بها لبريطانيا، ووعدت الحكومة البريطانيّة من خلاله المساهمة في بناء البنية التحتيّة التكنولوجيّة والصناعيّة للسعوديّة، ومساعدتها على إنتاج الطاقة النظيفة، كما تطمح "الرؤية" السعوديّة، لتهيئة البلاد لمرحلة ما بعد النفط؛ ما سرّع خطوات القيادة السعوديّة للتوجّه شرقًا وآسيويًّا ليس فقط لتعزيز التفاهم والتنسيق مع روسيا في المجالات النفطيّة والكيماويّة، بل الاتّفاق مع الصين على ضرورة العلاقات الثنائيّة "بتعاونٍ استراتيجي" فُتحت من خلاله الأبوابُ الصينيّة للسعوديّة في المجالات كافةً بما فيها النوويّة، ووعدت الصينُ شريكَها النفطي الأهمّ في العالم، أن تسهم في نقل "المملكة" إلى مرحلة التصنيع والتكنولوجيا. وقد نجحت القيادةُ الصينيّةُ من إقناع السعوديّين بأهميّة البيئة الحاضنة للتطوّر والبناء والانحياز "للتعايش السلمي" مع الجارة إيران، الحليف القوي للصين في المنطقة، ما سيعكس نفسه على الدور القيادي للسعوديّة التي ستمسكُ بخيوط العلاقات وإدارة الصراعات في المنطقة، بما فيه الصراع العربي الصهيوني من مركز قوّة؛ لأنّ الصين كما تدلّل سياساتها واستراتيجيّتها لا تعدّ "إسرائيل" مدخل علاقاتها للمنطقة، وتتعاملُ معها، براغماتيًّا، على اعتبارها أحد دول المنطقة، أمرًا واقعًا، وتعمل على تجيير هذه العلاقة، عند الضرورة، في صراعها مع الولايات المتّحدة إقليميًّا ودوليًّا؛ لأنّها تدرك أكثر من غيرها أنّ الكيان الصهيوني هو صنيعة رأس ماليّة إمبرياليّة يحتلُّ وجوده مكانةً عسكريّةً ذات أولويةٍ في سياسات حكوماتها المتتابعة؛ لأنّها هي مرتكز نفوذها ووجودها في المنطقة. من هنا لم تنظر الإمبرياليّة والصهيونيّة بعين الرضا للوفاق السعودي الإيراني، وتعبّر عن خوفها من الدور الصيني ومن دبلوماسيّتها الهادئة في تفكيك خططهم واستراتيجيّتهم في المنطقة القائمة على تأجيج الصراعات العربيّة - العربيّة والعربيّة - الإيرانيّة. لا شكّ أنّ مكامن الخوف استراتيجيّة، وليست تكتيكيّة؛ لأنّ ما تقوم به الصين لا يعزّز فقط قوّتها الاقتصاديّة، بل يقدّمها نموذجًا سياسيًّا وفكريًّا في العلاقات الدوليّة والبناء الاجتماعي الذي هو مصدرُ نموّها وقوّتها ونفوذها.                                                                      

يجب ألا يفهم أن الانسلاخ السعودي عن حاضنتها وبيئتها الإمبرياليّة الصهيونيّة التاريخيّة قد اُنجز بمجرّد إقامة العلاقات مع "أعداء" الولايات المتّحدة أو حتى إصدار بياناتٍ مشتركةٍ معهم تؤكّد على العلاقات الاستراتيجيّة والتعاون في المجالات كافة. إنّ الانفكاك من "العقال" الإمبريالي مسألةٌ معقّدةٌ طويلة الأمد؛ واستراتيجيّةُ جوهرها اقتصاديًّا - وهذا الأهم -: بناءُ اقتصادٍ مستقلٍّ ويقطع مع الماضي وينهي التبعيّة. وسياسيًّا: اتخاذ موقفٍ مغايرٍ لما هو قائمٌ من الكيان الصهيوني ومن جوهر الصراع العربي الصهيوني والقضيّة الفلسطينيّة الذي ما زال حدّه الأعلى يتمثّل بما أسمته القيادات السعوديّة السابقة بـ "المبادرة العربيّة" التي رفضها وما زال يرفضها الكيان الصهيوني الذي يسعى ويطمح لتحقيق استسلامٍ عربيٍّ كاملٍ وبلا شروطٍ، كما حدث مع الأطراف كافةً التي وقّعت معه اتفاقيات "إنهاء الصراع"؛ لأنّ مشروع الحركة الصهيونيّة، الذي هو - أوّلًا وأخيرًا - مشروعٌ إمبريالي، في فلسطين والمنطقة لا يقبل ولا يحتمل الحلول الوسط، التي تعتقد بإمكانيّتها أطرافٌ عربيّةٌ واهمةٌ أنّه من خلال أمريكا والتحالف معها، التي كانت وما زالت هي حصان الرهان منذ السادات، مرورًا بعرفات، وانتهاءً بالسعوديّين، العرّاب والمموّل الحقيقي للتسوية منذ عقود. المراهنون على الولايات المتّحدة على ما يبدو لا "يدركون" أو يدركون ويمعنون أنّ انحيازهم لأمريكا وانضمامهم لحلفها يؤدّي إلى مزيدٍ من الاختلال في ميزان القوى لصالحها ولصالح الكيان، الذي، تباعًا، يزدادُ تعنّتًا وتشدّدًا وبطشًا؛ ما يستبعد "العامل" العربي نفسه من "الحل"، بل يضع هذا العامل – موضوعيًّا - في خدمة الاستراتيجيّة الإمبرياليّة الصهيونيّة النقيضة. من جهتها تستمرُّ الولايات المتّحدة في بيع الوهم من خلال تسوّق الكيان الصهيوني على أنّه المدخل لخصومها وأعدائها لتحسين العلاقات معها أو لفتح الطريق أمام من يريدون إقامة علاقاتٍ معها وكسب رضاها. هذه العكازة لا تحتاجها ولا هي ضروريةٌ للصين وروسيا لتعزيز وجودهم، سواءً في منطقتنا أو مناطق أخرى من العالم، لذا في عالمٍ متعدّد الأقطاب بقيادة الصين، تفقد "إسرائيل" أحد أهم وظائفها وخصائصها الإمبرياليّة، وتكتسب السعوديّة ودولٌ عربيّةٌ أخرى، من خلال علاقاتها "الاستراتيجيّة" بالصين، أهميّةً استثنائيّةً إذا ما تطوّرت إلى مداياتها الضروريّة في هذا العالم الجديد المتعدّد الأقطاب، الذي سيتمّ فيه إزاحة "إسرائيل" عن عرش الهيمنة الإقليميّة بدرجة انزياح الولايات المتّحدة عن عرش هيمنتها العالميّة نفسها؛ ما سيشجّع السعوديّة على الابتعاد عن الكيان الصهيوني واتّخاذ المواقف "القوميّة" التي تستجيب لطموحات محمد بن سلمان، الملك القادم، والقيادة السعوديّة في "قيادة" الأمّة العربيّة مع الانتهاء من تنفيذ الرؤية عام 2030. هذا بلا شكٍّ سيعرّضُ السعوديّة، وخاصّةً ولي العهد إلى ضغوطاتٍ وتهديداتٍ تضع حياته نفسها في خطرٍ لإجباره على التراجع والعدول عن استراتيجيّته الجديدة، وسترفق هذه السياسة الأمريكيّة بضغوطٍ داخليّة، وخاصّةً من الفئات المحافظة في "العائلة المالكة" التي تتحيّن الفرص للانقضاض على السلطة، التي هي - موضوعيًّا - أقرب للصهيونيّة وكيانها، التي حجّمها محمد بن سلمان والموالون له. في ظروفٍ كهذه التي يمكن تسميتها "بالمرحلة الانتقاليّة" الّتي يمرُّ بها المجتمع السعوديّ والدولة السعوديّة، يمكن أن تحتدم فيها التعارضات بين "أجنحة العائلة" وروافدها السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، وتتدحرج إلى تناقضاتٍ تغذّيها قوى خارجيّة؛ بهدف وقف التحوّلات الجديّة الجارية منذ سنوات في السعودية وتعطيلها، ما يُوجب التنبّه لها وحسمها مبكّرًا؛ وذلك بإجراء مزيدٍ من الإصلاحات في السياستين؛ الداخليّة والخارجيّة، في مقدّمتها وقف العدوان على شعب اليمن الذي يستنزف إمكانات السعوديّة الماليّة والبشريّة التي تحتاجها السعوديّة لتحقيق نجاح "الرؤية" وتنفيذها، ووقف الاتّصالات والعلاقات بالكيان الصهيوني، بل ومنعها؛ لأنّ الخطر الأكبر يتسرّب من خلالها على الاستراتيجيّة الجديدة؛ ما سيسهم في وضع مجمل العلاقات والاتفاقيات العربيّة، خاصّةً الفلسطينيّةَ مع الكيان الصهيوني في مأزق؛ ما سيفتح الطريق مجدّدًا "للوفاق والتضامن" العربي - العربي، ولو بحدوده الدنيا، خاصة بعد استرجاع جامعة الدول العربيّة "لعروبتها" التي فقدتها بإفقاد سوريا لعضويّتها.

إنّنا نعيش في عالمٍ متغيّرٍ تشتدّ فيه التناقضات والصراعات بكلّ أنواعها؛ بسبب فقدان عالم القطب الواحد، الذي قادته الولايات المتّحدة التي تعدّ سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وتفكّكه، مبرّرًا لوجوده واستمراره، عالمٌ يشقُّ طريقه الجديد بعسرٍ وألمٍ من أجل عالمٍ متعدّد الأقطاب لا يستطيع فيه قطبٌ بمفرده تقرير مصير العالم أو يهدّد وجوده، وهذا ما يميّز عالم اليوم عن عالم ما بعد الحربين العالميّتين.

القيادةُ السعوديّة، صاحبة "الرؤية" الطموحة والواقعيّة، تستعدُّ وتسعى أن تكون أحد الفاعلين والمكوِّنين لهذا العالم قيد التشكيل؛ إنّها تملك الإمكانات الماديّة الجبّارة والكافية لتقوم بتحوّلاتٍ بنيويّةٍ واعدةٍ إذا ما تزاوجت مع الإرادة الحقيقيّة لقيادتها (التي تقول: إنّها تمتلكها)؛ فإنّنا سنكون أيضًا أمام وطنٍ عربيٍّ متماسكٍ و"شرق أوسط" جديد، ولكن ليس كما أراده شمعون بيرس، ولا كما حلمت به كوندا ليزا رايس.