نهضة مصر بين الخطاب والممارسة

حجم الخط
لم تكف مصر الحديثة يوماً عن محاولة إحراز نهضتها كدولة، بل، ولعبت في مرات عدة، دوراً أساسياً، بالمعنيين الفكري والعملي، في مشروع نهضة الأمة العربية، بل، وفي مشاريع نهضة أمم العالم الثالث، في مجابهة مخططات السيطرة الاستعمارية الغربية بمراحلها المختلفة. فمن مصر انطلقت، بقيادة محمد علي، أول محاولة حديثة للنهضة والتحديث في الوطن العربي، وهي المحاولة التي تكالبت على إفشالها والحيلولة دون بلوغها إمبراطوريات السيطرة والاستعمار، الغربية منها والشرقية، رغم ما كان بينها آنذاك من صراعات وحروب، بلغت ذروتها لاحقاً في الحربين العالميتين. ومن مصر أيضاً أطلق رواد مشروع النهضة العربية سؤال: "لماذا تقدموا هم"، (الغرب)، "وتأخرنا نحن"، (العرب)، سؤالاً لا يحث على التفكير في مواطن ضعفنا الداخلي، نحن العرب، فحسب، بل، ويحث بالقدر ذاته، وربما أكثر، على التفكير في أن هذا الضعف، إنما يشكل، بنسبة كبيرة، وجهاً آخر لعلاقة السيطرة والنهب التي نشأت بين العرب و"الغرب"، بل، وبين الأخير والعالم الثالث عموماً، في مرحلتي الاستعمار المباشر وغير المباشر. وفي مصر أيضاً، وعلى ارتباط بالشحنة الفكرية التحررية التي حملها هذا السؤال، انطلقت، (وثورات شعبية عربية أخرى)، ثورة قادها عرابي، وثورة قادها زغلول، وصولاً إلى ثورة 23 يوليو 1952، التي أنجزت، (من بين ما أنجزت)، مساهمة عربية في إطلاق "مشروع باندونغ" عام 1955، الذي شكل المشروع السياسي التحرري الأهم لفك ارتباط دول وشعوب أمم العالم الثالث بمشاريع السيطرة والنهب الغربية، وتظهير أنه، (فك الارتباط)، السبيل الأنجع، وخط السير المضمون، لإحراز النهضة القومية لهذه الأمم، بعد أن برهنت التجربة العملية على بطلان، وكذِب، وزيف، محاولات إحراز هذه النهضة بمشاريع "اللحاق بالارتباط"، ما دام هذا الارتباط يعني استمرار سياسة السيطرة والنهب لقوى الاستعمار الغربي التي سيطرت الولايات المتحدة عليها منذ العام 1945، وأعادتها منذ العام 1990 بعد تفردها في السيطرة على النظام الدولي، إلى ممارسة سياسة الاحتلال والتدخل العسكري والأمني المباشر، ومن خلال قرارات لحلف الناتو حيث تفشل في استصدار قرار بذلك من هيئة الأمم التي ما انفكت تسيطر عليها، وتعمل على تهميشها لمصلحة هذا الحلف، الذي تستخدمه، ومعه أكبر ثلاث مؤسسات مالية دولية، (البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية)، أدوات لإحكام وإدامة سيطرتها المنفردة على العالم، ونهب ثرواته، ومنع نهوض كل من لا يصطف خلفها، خاصة ذاك الذي يجرؤ على مجرد التفكير بنقد ربيبتها، والشريك الحارس لسيطرتها في منطقة الشرق الأوسط، "إسرائيل". واليوم، لئن كان من البديهي أن تجدد تحولات انتفاضة 25 يناير 2011 المصرية خطاب نهضة هذه الدولة العربية المركزية، بما لها من تأثير وازن ومعترف به في محيطها القومي وغلافها الإقليمي، فإن من الطبيعي أن تتنوع الرؤى لتحقيق هذه النهضة، ومن الأكثر طبيعية أن تقف كل من الولايات المتحدة و"إسرائيل" بما لهما من تحالفات ونفوذ، دولياً وإقليمياً، ضد اعتماد فك ارتباط مصر بسياستهما سبيلاً لتحقيق نهضتها، فيما هو، كما برهن التاريخ، السبيل الوحيد لبلوغها. أما ما هو غير طبيعي حدَّ الخروج عن مقتضيات الواقع، فيتمثل في ألا يبادر،( ويبدو أنه لن يبادر)، مَن حمل مشروعاً لهذه النهضة، وفاز عبر الوعد بتحقيقه بسلطة ما بعد انتفاضة شعبية، إلى إطلاق حوار وطني موضوعي مفتوح شفاف ومعمق يبحث، ويفكر، في كيفية إخراج مصر، وإن بتدرج، من إطار السيطرة الأمريكية "الإسرائيلية" وفك الارتباط معها كسياسة، أثبتت التجربة أنها العائق الأساسي أمام نهضتها، والحلقة المركزية الناظمة التي دون الاتفاق أو التوافق الوطني عليها، نظرياً وعملياً، بما يحققه ذلك من توحيد للإرادة الوطنية وجهودها وإمكاناتها، تضيع الطاسة، وتتشوش رؤية المدخل الصحيح لتحديد الهدف،(أعني النهضة)، والمحطة الأولى للإقلاع صوبه، وخط السير المضمون باتجاهه، بعيداً من الارتجال النظري والتخبط العملي، اللذيْن تشير إليهما يوماً بعد يوم، وعلى أكثر من صعيد، المعالم الأولية لسياسة سلطة الرئيس الجديد للدولة المصرية، بدعم، (وربما بتوجيه)، من "الإخوان"، وذراعهم السياسية، حزب الحرية والعدالة، سواء لجهة مواصلة سياسة الاقتراض من صندوق النقد الدولي، أو لجهة شن الهجوم الأيديولوجي غير المبرر الذي شنه القائم بأعمال رئيس حزب الحرية والعدالة، عصام العريان، ضد قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني، متهماً إياها بـ"احتقار الدين" و"العمالة" و"تلقي" التمويل الأجنبي"، أو لجهة أن يطغى رجال المال والأعمال على تشكيلة الوفد الذي رافق الرئيس المصري إلى الصين، الأمر الذي رأى فيه كبار المفكرين الاقتصاديين المصريين، استمراراً لسياسة النظام القديم في الاعتماد على هذه الشريحة الاجتماعية التي طالما هاجم "الإخوان" سياسة تزاوجها مع السلطة سابقا، بينما يعتمدونها اليوم، مع فارق تحويل تنسيق تحالفها مع السلطة المصرية من رجل المال وصديق مبارك ونجله جمال، أحمد عز، إلى رجل المال "الإخواني"، حسن مالك. ماذا يعني هذا الكلام؟ ما إن تهبط برامج السياسيين من عالم الخطاب النظري إلى تضاريس الواقع الوعرة والمعقدة، حتى تتبدى لهم جلية أكثر الهوة الفاصلة بين النظرية والتطبيق، ذلك أن أي حدَثٍ واقعي آخذ بالتشكل ينطوي بطبيعته على احتمالات متعددة. وهذا ما يفسر الفارق بين الموعود والمُنْجَز بالفعل لكل السياسيين، أياً كانت جنسيتهم ولونهم الفكري، لكنه، (برأيي)، ليس السبب الذي يصلح لتفسير سرعة التناقض بين ما وعد به "الإخوان"، (كمعارضة) من مشروع لنهضة مصر، وبين تطبيقاتهم العملية له، (كسلطة)، فهذا تناقض لا يمكن تفسيره إلا بواحد من سببين، (أو بكليهما معاً)،: إما أن "الإخوان" استخدموا عمداً تعظيم مشروعهم كأنه "ملاك" وتقزيم برامج منافسيهم كأنها "الشيطان" وسيلة للفوز بالسلطة كأداة للفعل السياسي، الذي بطبيعته المعقدة والنسبية ينفي ويكشف في آن تبسيطات سردية "الملاك" ,"الشيطان"، أو أنهم براغماتيون حدَّ أن يمحو فعْلهم في النهار ما قالوه، أو ما وعدوا به، في الليل. وفي هذا وذاك، (برأيي)، مفرخة لتآكل صدقيتهم والثقة بمشروعهم لنهضة مصر، سياسياً وشعبياً.