المقبره السيارة

حجم الخط
اعتاد الناس ورتاجاٌ لخوفهم من الموت تشييد قبورا لموتاهم بعيدا عنهم في منظقة نائيه موحشه محاطه بأشجار عقيمه تسكن سيقانها الافاعي وترقص على اغصانها العفاريت والاشباح, وغالبا ما تكون على طرفي التجمع السكاني سواء كانت مدينه او قريه او مخيم , اما اذا ما امتدت تلك التجمعات وتوسعت بفعل فاعل او فعل غافل واقترب الموتى من شرفات وحدائق منازل الاحياء فانهم – الاحياء – يوقفون المقبره عن الحياه عبر لجوئهم لاحياء مقبره جديده في مكان نائي بعيدا,في محاوله اخرى لترك موتاهم يحيون وحدهم بوحدتهم القاتله في قبورهم الرطبه البارده بعد ان يأخذو منهم ذكراهم التي تهل مع رائحة الكسل اليومي او عبق الحاجه لحياة كريمه يموتون فيها كل ساعه الآف المرات اثناء تدافعهم وراء كسرة الخبز المغمسه بالكرامه المستعاره بالوطن المسلوب . ذلك يحدث في كل الدول وعلى مرأى الاموات ومرأى الازمان الا في وطننا الحبيب فلسطين حيث يدفن اموات شعبنا في نوعين من المقابر..واحده كتلك التي ذكرت سابقا والاخرى تخص الاسرى الفلسطينيين وحدهم , اللذين بدأو بالتوالد والتكاثر منذ وعو حديث الجبهه قبل النوم عن الغول الذي بلع البيت مع الاطفال حتى طلوع رجال الفجر من حنجرة الديك الفصيح.. لا انها ليست السجن كما قد يتبادر للبعض,بل هي صديقتهم اليوميه وزائره الذي يجيء مره واحده باليوم كي يلفظ ما في بطنه من موتى يعشقون الحياة ويبادره مرة واحده باليوم وفي جوفه احياء يموتون تحت عجلاته في حركته وسكونه,,انها المقبره المتحركه التي تجوب الوطن من اقصاه الى اقصاه تنتقل من مدينه الى اخرى تمر بمحاذاة المدارس والحدائق والمنتزهات والمستشفيات والمعسكرات ولا تتوقف الا داخل اسوار السجن.. فمن سجن مطوق باسوار اعلى من جناح الطير في ارض النقب الى سجن تسكنه الصناديق الاسمنتيه المحكمة الاغلاق كزائخ البنك المركزي في نفحه وريمون وايشل وهلكدار, من سجن تفوح منه رائحة الروث المسكوب في اسطبلات العثمانيين في عسقلان والدامون الى سجن عكا حيث لازال الدم المسفوك للابطال الثلاثه ينزف في صحن المصباح المضيء بساحة المنشيه , ومن سجن مجدو الجالس على تاريخ ماضينا (المجيد) الى سجن عوفر المطل على حدود اوسلو ومن مسلخ الجلمه في حيفا عروس البحر مرورا بتلموند وهدريم وجلبوع وشطه حتى صرخات المسلوخين في المسكوبيه بجوار مآذن الاقصى مرورا بالمشبوحين في بتاح تكفا والمفقودين في عتليت والمنسيين في اكس والاموات مع اوجاعهم في سجن الرمله , هي مقبره تستيقذ في سجن وتقضي ظهيرتها في ثانٍ وتمسي في ثالث وتنام في رابع ولأنها متحركه وتسير على عجلات تسميها ادارة مصلحة السجون تلطيفا او استهتارا بالبوسطه, وكأن الاسرى طرودا كرتونيه تنتقل رغما عنها من مرسل الى مرسل اليه هي حافله قد تكون باص او شاحنه حديثه (من بره هالله هالله ومن الداخل يعجن ويطحن فيها عبيد الله ) هي بوسطه لكنها ليست كالتي عرفناها بالسينما الكلاسيكيه او تلك التي ننتظرها عادة لتنقل لنا وردا من حبيب او خبرا مفرحا من قريب , انها مقبره تشبه مقبره السلاطين واعيان الناس من الخارج , فهي محاطه بجدران نظيفه لامعه تزينها رسم لأمرأه فائقة الجمال تلعق بوظة شتراوس, فتحتار الى اين تسترق النظر لقطرات البوظه على شفاه الست ام لطعجة الست على ثلاجة البوظه , وأحيانا يعلق على جدرانها رسما لنساء يعتلون الاشجار بملابس البحر, هي هكذا من الخارج اما من الداخل فهي ليست حافله ولا هي باص ولا حتى شاحنه فشبابيكها مقفله بصفائح معدنيه ومقاعدها حديده عاليه مخرمه تلسع قفا الاسير صييفا وتقسم ظهره شتاءا , سقفها مصفح بالفولاذ المقوى واسفلها كذلك , هيمن الداخل صندوق مقطع الى حجرات مختلفة الاحجام اكبرها تتسع لثلاثين اسيرا مقيدا بالسلاسل بأطرافه العليا والسفى واصغرها اشبع بخزانه بلا قواطع يحشر فيها اسرى العزل حيث يتم تقيدهم بسلاسل اضافيه بالمقاعد والواجهات كذلك يوجد حجرتان يمتد طول الواحده منها ثلاثة امتار بعرض نصف متر يحشر فيها عادة عشرة اسرى ويتوسط هذه الحجرات حجرة (VIP) ,ذات مقاعد مخمليه مجلده منتفخه ومريحه وفي احدى زواياها علقت شاشة كمبيوتر تنقل ببث مباشر ما يحدث بالحجرات الاخرى يشاهدها كلب بحجم حمار صغير وحوله يلتف اربع جنود ( نحشون ) مدججين باسلحه ناريه وغازيه وعصي كهربائيه وهناك ايضا حجره للسائق وحارسه والتي لا تختلف عن اي حجره لحافله حديثه .. كل ما قلناه عن الحافله – البوسطه – في سكونها وثباتها اما عن حركتها وخط سيرها فحدث ولا حرج, حيث تبدأ استعدادات الاسير في ولوج الحافله بالسادسه صباحا بعد العدد الصباحي الاول مباشره , حيث يكون هم الاسير الاول والاخير اخراج ما في امعائه من فضلات طعام الامس وعصر مثانته حتى آخر نقطه لانه لن يتمكن من دخول الحمام حتى انقضاء 24 ساعه اما الاسير الذي لا يتوفق في التخلص من فضلات طعامه قبل ركوب الحافله تتضاعف معاناته ويقضي جل وقته بالبوسطه وهو يشد على مخارجه وتزداد المعاناه اكثر لمرضى السكري وكبار السن اللذين يسمح لهم جلب قنينه فارغه للتبول اثناء السفر. هل بامكانكم تخيل رجل مكبل اليدين والقدمين ويجلس في حافله مسرعه لا يرى فيها الطريق ولا يدري باي لحظه تلتف او تقف او تصعد على مطب وبجانبه اسرى مسلوقين من الحر يحاول صب بوله في قنينه ؟؟؟!!!!. الكثيرون لا يجيدون شرب الماء اثناء سير المركبه فكيف الحال في التبول وفي قنينه ؟! لذلك يفضل غالبية الاسرى تحدي الالم او انفجار المثانه على القيام في هذه الخطوه .. قلنا: في الصباح تقوم ادارة مصلحة السجن بتجميع الاسرى المنوي نقلهم في غرف الانتظار( الامتناه ) علما ان بعض السجون كمجدو مثلا تنفذ هذه الخطوه قبل يوم على موعدها والامتناه عباره عن حجره 4*4 ينتظر فيها الاسرى مع حقائبهم وحاجياتهم استعدادا لاجراءات التشخيص الاوليه والتي يتم خلالها التدقيق في هوية الاسير عبر الصوره الشخصيه في الملف الخاص به. وكذلك عبر التأكد من بصمته على حهاز الكمبيوتر ومن ثم يتم تقيده في يديه ورجليه ونقله الى حجرة انتظار اخرى وبعد ذلك تبدأ مرحلة التفتيش الاوليه حيث يمر الاسير حافيا رافع تلك يديه للاعلى عبر بوابة الكشف عن المعادن ثم يساق مكبلا الى زنزانة صغيره ينتظره بداخلها جنديان يقومان بتعريته وتفتيش ملابسه يدويا ثم عليه لاحقا ان يعيد ملابسه الى وضعها الطبيعي وهو مقيد _ تخيلوا ذلك فقط – وبعد عناء شديد عليه ان يجر حقائبه وحاجياته الى اماكن اخرى مهمتها كشف ما بداخل هذه الحقائب وتستمر هذه العمليه من ساعتين الى ثلاثه حسب عدد الاسرى ومزاج طاقم التفتيش . ثم يعاد حشر الاسرى في حجرة الانتظار في جو خانق ساعه اثنتين ثلاثه ( على التساهيل ) مما يدفع بعض الاسرى للدعاء لرب العالمين أن يستعجل قدوم النحشون. والنحشون هي الفرقه العسكريه المسؤوله عن نقل الاسرى بين السجون وهي فرقه لها نظامها وقوانينها الخاصه , ولا تقنع باجرائات مصلحة السجون بالتشخيص والتفتيش حيث تعاود الكره مرة اخرى ولكن بطريقه بدائيه حيث يتم تفتيش الاسير وحقائبه والعبث بأغراضه بطريقه يدويه وبعد الانتهاء عليه ان يعيد ترتيب حقائبه وحملها الى الباص وهو مكبل اليدين والقدمين – تخيلو ذلك مرة اخرى- ثم يأتي دور الصعود الى الحافله حيث يبدأ الجندي بالمناداه على الاسرى حسب ملفاتهم ويساقون فرادا الى المركبه التي يقف على بابها جنديان من النحشون وكلب حراسه ايضا من النحشون ولكل منهم مهمه خاصه .. الجندي الاول يمرر الة فحص المعادن على جسد الاسير مرة اخرى والثاني يقوم بتفتيشه يدويا اما الكلب فيراقب كيفيه تنفيذ الامر , وفي داخل المركبه ينتشر جنود النحشون حيق يتم التأكد ثانيا من اسماء الاسرى وفحص ملفاتهم من جديد وتحديد الجهه المنقولين اليها وسبب النقل,, نقل عادي نقل قمع طلب للتحقيق طلب للاستجواب طلب للمحكمه ... الخ. كذلك يتم توزيعهم على الحجرات حيث يتواجد المحظوظين منهم في الحجره الكبيره التي تتسع لثلاثين اسيرا اما المتعوسين يتم الزج بهم بالخزائن حيث الرطوبه والحر وانعدام التهويه والاكتظاظ ,, ومع صوت المحرك يبدأ الاسرى في محاوله لقتل الوقت ونسيان همومهم واوجاعهم بتبادل الاحاديث بشتى الموضوعات في حين يحاول اخرون النوم متكئين على قيودهم بينما صغار الاسرى ( الاشبال) يتنقلون كالعفاريت بين المقاعد بحثا عن شقوق في واجهات المركبه لعلعهم يستكشفون الطريق او يحظون بروئة غزاله شارده على حواف الطريق.. وتستمر الرحله ساعات وساعات والاسرى بلا طعام ولا شراب تتصبب من جباههم قطرات العرق وتخرج من انفاسهم زفرات الموت البطيء.. رحلة عذاب تطول ولا يرتاح فيها الاسير الا اذا حطت الحافله في سجن الرمله حيث كل الطرق تؤدي الى هناك , فاذا انتقل الاسير من النقب الى مجدو عليه ان يمر اولا بسجون نفحه ريمون عسقلان ايشل هلكدار حاجز ترقوميا ثم ينام ليلته او نصف ليلته في معبار الرمله ( الذي سنتحدث عنه في مقالة اخرى) , وفي صباح اليوم التالي يبدأ النصف الاخر من رحلته الى مجمع هشرون الدامون الجلمه عتليلت ثم تتوجه الحافله الى اقصى الشمال حيث سجون سلمون وهرمون لنقل المساجين الجنائيين ثم تعود الى جلبوع وشطه وتنتهي في مجدو والعكس بالعكس..وبين مسار سجن وآخر هناك ساعة سفر وساعة انتظار وتفتيش وتشخيص بكل سجن تعبر الحافله اليه . ان (رحلة) اسرى مجدو الى النقب وبالعكس تستمر 48 ساعه بالتمام والكمال علما ان المسافه التي تفصل السجنين لا تتعدى ساعتين سفر بسرعة 80كم/س. لذلك صرنا نشاهد احيانا بعض الاسرى الموقوفين يسارعون الى عقد صفقات جائره بحقهم في المحاكم ليتخلصو من معاناة البوسطه واوجاعها ,كذلك هناك العشرات من الاسرى الاداريين يمتنعون لتقديم استئناف على قرار اعتقالهم الاداري لكي لا يتحملوا عناء المسير الى سجن عوفر, كذلك الامر الى الاسرى المرضى اللذين يحتاجون الى فحوصات مخبريه في مستشفى سجن الرمله فانهم يؤثرون تحمل الاوجاع الناتجه عن امراضهم على الاوجاع الناتجه عن ركوب البوسطه حيث الحر الشديد صيفا والبرد القارص شتاءا والاختناق والتفتيش المذل في كل الفصول والسجون لذلك اصبحت البوسطه هي الهم الكبير للاسرى لذلك اطلقو عليها المقبره المتحركه او حافلة الموت....