من المشهد الداخلي الفلسطيني..

حجم الخط

يواجه الوضع الفلسطيني بكل مكوناته الوطنية، مجموعة من التحديات التي لم تعد تقتصر على مختلف عناوينه الإسرائيلية المدعومة أمريكيا:- من الموجات المتتالية والمترابطة للتوسع الاستيطاني بالضفة الغربية، وتهويد القدس العربية، إلى تجميد تسليم عائدات الضرائب التي يدفعها التجار الفلسطينيين، وعدم تسليمها للسلطة الوطنية الفلسطينية..إلخ، بل لقد تخطى كل  ذلك، إلى تداعيات الأحداث والتطورات الجارية والتي باتت تعصف بالعديد من البلدان العربية الوطنية..إنها طالت القضية الفلسطينية ونضال شعبها بآثارها السلبية الحادة، وفي سياق متصل أصبحت الضغوطات الأمريكية السياسية الاقتصادية والأمنية المترافقة مع كافة مراحل المفاوضات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية التي رعتها الإدارة الامريكية "ولازالت" منذ عام 1993، كنتاج لاتفاقية أوسلو.. وكأنها جزء من حياة الفلسطينيين. إن فشل المراهنة على المفاوضات كترجمة لخيار سياسي، في تحقيق المشروع الوطني، أو الدولة الفلسطينية المحتلة عام 1967، لأن دولة الاحتلال قد اتخذت من تلك المفاوضات مظلة لتكسير ركائز ومقومات الدولة.. هكذا تم الانتقال إلى هيئات الأمم المتحدة من أجل الحصول على قرارات يبنى عليها أساس تحقيق الدولة الفلسطينية، لكن الإدارة الأمريكية وكالعادة قد أفشلت هذا المنحى دعما لدولة الاحتلال وضغطا متزايدا على الحالة الفلسطينية للدفع بها نحو العودة للمفاوضات، بالتالي التفاوض مع  دولة الاحتلال حول أية خطوة جادة قد يتخذها الوضع الفلسطيني أي العودة إلى نقطة الصفر، بالتفاوض على كل القضايا التي جرى التفاوض عليها على مدار 22 سنة دون أية فائدة للجانب الفلسطيني. ضمن هذه الوجهة وجدنا أن الإدارة الأمريكية تحاول استخدام اللجنة الرباعية التي أرسلت مندوبها طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، من أجل "تشجيع" القيادة الفلسطينية للعودة إلى تلك المفاوضات وسعيه أيضا لاستدراج حركة  حماس لدخول هذا الحقل، ومحاولته إثارة نقاش حول شروطه الخمسة المتعلقة بهذا الجانب، ندرك أن الإدارة الأمريكية لها أولويات برنامجية لن تكون القضية الفلسطينية أو أي من الحقوق الوطنية لهذا الشعب ضمنها، لكنها تحاول امتصاص النتائج غير المتناغمة مع رؤيتها ومخططها في المنطقة من هذه القضية التحررية العادلة، بالتالي فإنها لازالت تدير الأزمة عن بعد، حتى أن مجرد الحديث عن الدولة الفلسطينية بات في تراجع، إلا من زاوية الاستخدام التكتيكي: مثل طبخة الحصى أو سياسة العصى والجزرة، وحديث طوني بلير عن غزة وعن حماس في الأيام الأخيرة لن يخرج عن هذا النسق، فالأولوية لهؤلاء الاستعماريين تحددها بوصلة مصالحهم، من التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب حيث من أسسه هو من وضع حجر الأساس لظاهرة داعش الخطيرة وغيرها.. ومع ذلك لم تتحرك الإدارة الأمريكية إلا بعدما وصلت داعش إلى المياه الإقليمية لآبار النفط، مع ملاحظة أن هذا التحرك وغالبية إن لم تكن كل الخطوات المرتبطة به تدر الربح الصافي على أمريكا وحلفائها من الدول الاستعمارية، من تجديد الحياة لصناعة أسلحة الموت والدمار، إلى التحكم بأسعار النفط وتمرير السعر المتناسب مع اقتصاديات الدول الغربية،  في إطاره غدت بعض الدول العربية التي أصبحت جزء من هذا التحالف مجرد صدى للسياسة النفطية الأمريكية وكذلك تحولت إلى بقرة حلوب لهذا التحالف ومتطلبات برنامجه في سبيل درء الخطر عن عروشهم، هكذا يتم تبديد ثروات شعوبنا وأجيالها القادمة، وقضية "مواجهة الإرهاب" بالنسبة للدول الغربية قضية طويلة، دون أن يكون هدفهم النهائي تدمير داعش بل إبعاد خطرها المباشر عن مصالحهم في سياق تقليم أظافر تلك الظاهرة، حتى يضمن التدمير التام لعدد أساسي من دولنا الوطنية وجيوشها، وأيضا لإبعاد أية  مخاطر مستقبلية قد تهدد الكيان الصهيوني، وصولا إلى محاولة إدارة أوباما وشركائها إنهاء الملف النووي الايراني، حيث فشلوا في إنهائه وفقا لرؤيتهم، لكنهم مستمرين في ذلك بالرغم من عناد وقوة الموقف الإيراني.

إن نضال شعب فلسطين ليس بعيدا عن تلك التطورات بل إنها تنعكس سلبا عليه في هذه الفترة، كما إن شعوبنا العربية تدفع الخسارة الكاملة من ثرواتها، من  دماء أبنائها وتدمير دولتها ومؤسساها العسكرية.. فهل تستطيع  شعوبنا وقواها الحية صناعة المفاجئة بعد هذا المخاض العسير بقلب الطاولة في وجه أعداء مصالحها، إن هذه الخارطة الجديدة وتحدياتها المتشعبة تتطلب من الوضع الداخلي الفلسطيني اتخاذ العديد من الخطوات بهدف تحصين الذات وتجميع كل الطاقات، لمواصلة المسيرة وصيانة حقوق وثوابت شعب فلسطين، لأن طبيعة الاشتباك المفتوح مع هذا الكيان الصهيوني تفرض ذلك، ولأنه لا يوجد فصيل أو تيار فلسطيني بعينه يستطيع القيام بكافة متطلباته فكيف يكون الحال وسط هذه المستجدات.

لذا سوف أحاول في هذا المقال مناقشة عناوين جديدة برزت في الأشهر الأخيرة، في الداخل الوطني، متعلقة بوضع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة البعض التشهير المبطن والظاهر بها  في إطار الدفاع عن خيار سياسي محدد، تعمق لديه منحى التفرد في اتخاذ القرارات ذات البعد الوطني، بالتالي إبعاد فصائل منظمة التحرير عن ممارسة دورها في مناقشة وإقرار تلك القرارات، بما ينسجم ودورها الكفاحي وسط شعبها في مواجهة المحتلين، بل إن مؤسسات منظمة التحرير قد تحوّل دورها في كثير من الأحيان إلى توفير مظلة لهذا الخيار السياسي، ووصلت الأمور إلى التعرض  للفصائل بالإساءة من قبل المختصين في هذا الشأن، من قبل بعض المستشارين أو الوزراء السابقين، وهنا لا فرق في استخدام خطبة الجمعة ضد الفصائل الوطنية أو تناولها في ندوة سياسية بالضفة الغربية أو خارجها في بعض البلدان العربية الشقيقة، حيثما تتاح الفرصة لهم ليتم استثمارها. والشيء المؤسف هو محاولتهم الزج باسم الرئيس الفلسطيني كساتر لأقوالهم، بحيث لا يكاد يمر سطر من حديثهم إلا ويتم الإشارة لاسمه...وهم بطبيعة الحال يدركون أنهم لولا تلك الفصائل ونضالها التحرري وتضحياتها على مدار العقود المتواصلة لما كانوا في مواقعهم. من جانب آخر: نجد اللجوء الاقتصادي على بعض الفصائل إضافة إلى الملاحقة الأمنية لكوادرها. إن ما يجري في مؤسسات  منظمة التحرير وتحديدا في لجنتها التنفيذية وما يرافقها من إجراءات أخرى، تؤدي موضوعيا في حالة عدم تصويبها بالأساليب الديمقراطية إلى إفراغها من مضمونها الوطني  وهنا يمكن الإشارة إلى محطتين برزت فيهما محاولات تجاوز فصائل منظمة التحرير أو إبعادها المتعمد عن المشاركة في القرار الوطني: وبالذات في الفترة الأخيرة: أولا تمثلت المحطة الأولى في إبعاد تلك الفصائل عن المشاركة في بلورة مشروع القرار الفلسطيني الذي تم رفعه لمجلس الأمن الدولي الخاص بآلية الانسحاب الفلسطيني من الأراضي المحتلة عام 67 والإقرار بالدولة الفلسطينية، وربما يكون هذا العامل أي عدم مشاركة الفصائل في بلورتها أحد الأسباب الرئيسية في الاضطراب والتموج الذي عاشه مشروع القرار في أروقة الأمم المتحدة وخارجها، وكانت النتيجة كما هو متوقع فلسطينيا، الفشل ارتباطا بالموقف الأمريكي، بدون استخدام حق النقد، حيث لم تكتف تلك الإدارة بما تم إدخاله من تعديلات على المشروع الفلسطيني العربي، والتي طال جوهره، مثل: حق العودة، ووضع مدينة القدس العربية..إن إبعاد الفصائل عن سبك هذا المشروع لم يكن حدثا عاديا، لأن هذه الواقعة على علاقة بقضايا مصيرية لا تعالج كأحداث جارية، مع ملاحظة أن غالبية القوى الفلسطينية قد عارضت مضمون ذلك المشروع. والمحطة الثانية: برزت بشكل حاد في الفترة الأخيرة داخل وخارج الاجتماعات القيادية الفلسطينية، حيث كان الإصرار من قبل ممثل السلطة الوطنية على عدم مشاركة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالوفد القيادي الذي كان مقررا ذهابه إلى غزة، من أجل اللقاء بقيادة حركة حماس، لمناقشة موضوع المصالحة الوطنية.. والقضايا المرتبطة بحياة سكان القطاع ما بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، وهي: الإعمار والمعابر، الورقة السويسرية الخاصة بوضع الموظفين في القطاع، وتباعا تمكين الحكومة الفلسطينية في القطاع، وآلية هذا التمكين كالبدء في إدماج 3000 رجل شرطة..الخ والمسؤولية الأمنية لحركة حماس من زاوية سقفها ومدتها الزمنية.. هنا كان الطرح البديل من قبل ممثل السلطة بأن يتشكل الوفد من ذات  التشكيلة التي حضرت اتفاق الشاطئ " بين حركتي فتح وحماس" قبل ما يقارب من العام، مع إضافات طفيفة، وتجديد الرفض بأن تكون فصائل المنظمة ضمنه.

اللافت هنا: أن قيادة حركة حماس وبعد التداول الإعلامي لهذه القضية الاختلافية، بادرت وطالبت بأن تكون فصائل المنظمة ضمن الوفد، وهو على الأرجح موقف مبني على أسس تكتيكية، وليس تعبيرا عن تحول في هذه الوجهة. لكن لماذا هذا الموقف من فصائل منظمة التحرير:-إن هذا المسلك على صلة بالمنهج السياسي وخياره في محاولة تحقيق "المشروع الوطني" أو ما تبقى منه، من خلال المفاوضات الثنائية مع دولة الاحتلال تحت الرعاية الأمريكية، وفي سياق هذا الخيار يتم السعي لاستحضار العامل الخارجي الذي يدعم النضال الوطني، بأفق رؤية محددة تعتقد بإمكانية تعديل ميزان القوى المحلي عن طريق هذا الاستحضار، عبر الضغط على دولة الاحتلال، على طريق تحقيق الدولة الفلسطينية.. إنه خيار لم تزكيه تجربة الـ22 عام من المراهنة على المفاوضات أو الدوران حولها، فالنتيجة كانت أعقد بالمعنى العملي مما كانت عليه الأوضاع ما قبل المفاوضات بفعل الوقائع التي فرضها الاحتلال لإجهاض فكرة الدولة الفلسطينية.. لذا فإن أصحاب هذا الخيار السياسي لا يريدون مشاركة ذوي الخيار الكفاحي الذي يعمد كافة أشكال المقاومة، حتى لا يعكر ما يسعى إلى تحقيقه أو الوصول له من قبل خيار التسوية السياسية، تبعا للرؤية الأمريكية والتي تحاول الإدارة الامريكية التوصل لها من خلال المفاوضات.

ثانيا: الجنوح لتعميق التفرد أو الهيمنة وهنا نجد أن الظروف الموضوعية الي يعيشها الوضع الفلسطيني بصعوباتها وتعقيداتها المختلفة في ظل الاحتلال العنصري، تغذي هذا الجنوح، إضافة إلى أن الحياة الديمقراطية الداخلية تكون شبه مجمدة إلى إشعار آخر، فلا حراك داخلي، ولا تغيير في تشكيلة المؤسسات من الاتحادات الشعبية إلى المجلس الوطني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وكذلك الحال بالنسبة لمؤسسات السلطة الوطنية الرئاسية والتشريعية..الخ وعلى الرغم مما يقال عن الديمقراطية الفلسطينية في وضعها العادي إلا أن هذا التجميد قد نمّى أسلوب التفرد والهيمنة،  ولا يخرج موضوع رفض دخول فصائل المنظمة لوفد الحوار مع حماس في غزة عن هذا التوصيف، بالمناسبة لم يتم تشكيل الوفد ولم يتوجه إلى غزة حتى هذه اللحظة، هذه الحالة لا تعني أننا أمام تفرد تفردي، بل نحن أيضا أمام تفرد فئة أو مؤسسة أو هيئة محددة بالقرار وطريقة اتخذاها، قد يتجاوز هذا المسلك حدود الساحة الوطنية إلى حقل العلاقات العربية والخارجية، حيث يسار إلى تشجير نتائج تلك العلاقة لصالح ذات النهج وذات الأداة وصولا إلى أدق التفاصيل في بعض الأحيان، كالاستقواء بتلك النتائج على الآخرين في الإطار الوطني، دون الانتباه إلى أن حصيلة الدعم لقضيتنا الوطنية بكل أنواعه تكون على صلة بصمود الشعب الفلسطيني وتضحيات مختلف قواه، بطبيعة الحال فإن من حق هذا الفصيل أو ذاك أن ينسج علاقاته الخاصة دخل وخارج الساحة الوطنية وفقا لمعيار الموقف من القضية التحررية  العادلة على طريق تحقيق الأهداف الوطنية.

إن طبيعة الوضع الداخلي الفلسطيني  والعلاقات بين مختلف القوى تضعف بلا شك مواجهة التحديات، فبدلا من تجاوز الانقسام وتداعياته، وجدنا قطاع غزة يمر بأزمة عميقة وكأنه خارج الحسبة الوطنية، فالعلاقات بين القوى الفلسطينية تمر بمرحلة سيئة، مما يتوجب دعوة الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير الفلسطينية للاجتماع بحضور كافة القوى الوطنية والإسلامية من أجل رسم الإستراتيجية الجديدة للخروج من المأزق، ولتعزيز المسيرة الكفاحية التحررية، والتصدي للمخططات المعادية لمصالح وحقوق شعبنا وأمتنا العربية.