الإعلام والإرهاب

حجم الخط

في لحظات الخطر التي تنال من أمن الدول وسلامة مواطنيها، يتبدى واجب المسؤولية أمام كل من يخاطب الرأي العام على صفحات الجرائد أو شاشات الفضائيات. غير أن واجب المسؤولية يختلف جذرياً عن التطوع بالجهل. الأول يدرك قضيته والثاني عبء عليها.

عندما تعرضت باريس لأبشع ليلة في تاريخها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية خرجت الصحف الفرنسية في اليوم التالي، بعنوان متكرر: «إنها الحرب».
مهمة الصحافة أن تستقصي المعلومات وخفايا ما جرى، وأوجه القصور التي مكنت الإرهاب من ضرباته الموجعة، وأن تنظر في التداعيات المحتملة وتصارح الرأي العام بالحقيقة، من دون أن تتورط في خفض روحه المعنوية أو إثارة معارك في غير أوانها.
بقدر انفتاح المجال العام على القضايا الحقيقية يتأكد دور الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع في اللحظات الصعبة. الإعلام هو مرآة المجتمع التي تعكس حيويته وشواغله ومدى قدرته على مواجهة التحديات والأخطار.
عندما ينظر العالم إليك فإنه يرى صورتك في إعلامك قبل دبلوماسيتك.
ننسى أحياناً أن العالم يتابع ما يُكتب هنا على ورق أو يُبث على شاشة. بعض ما يُكتب ويُبث فضيحة بكل مقياس سياسي وأخلاقي، تنال من شرف أي حرب مع الإرهاب.
لا يكفي أن تكون قضيتك عادلة لتكسبها، إذا كان بعض محاميك على قدر لا يُحتمل من انتهاك أي قيم مهنية وسياسية وإنسانية. بعض الإعلام أقرب إلى سفينة نفط أغرقت في بحر فلوثت مياهه، ونالت من المجال كله، رغم أي إضاءات واجتهادات لآخرين يمثلون أغلبية العاملين فيه.
في بلد مثل مصر له تاريخ عريق بالصحافة والإعلام؛ فإن المأساة لابد أن يوضع لها حد، وأن تكون هناك قواعد تكرس حريتها، وفق القيم الدستورية الحديثة، وتمنع في الوقت نفسه التفلت الذي وصل إلى حد اغتيال الشخصية والتشهير الممنهج وانتهاك الحياة الشخصية والطعن في الأعراض وخرق القانون، من دون حساب وعقاب.
لم يكن هذا التفلت إلّا الوجه الأكثر قبحاً للهجوم على ثورة «يناير» وتصفية الحسابات معها. بكلام صريح؛ فإن بعض ما يقال تحريض مباشر على العنف والإرهاب.
عندما تسخر من الدستور وقيمه الحديثة في التوازن بين السلطات؛ فإنك تسبغ شرعية على جماعات العنف والإرهاب لا تستحقها على أي نحو.
وعندما تنتهك كل القواعد القانونية والأخلاقية فكأنك تضع عبوات ناسفة في بنية مجتمعك سوف يكون انفجارها مروعاً.
رئيس الجمهورية نفسه يشتكي من هذا التدهور، ولا أحد آخر له قيمة أو وزن واعتبار مستعد أن يبرر التفلت. فمن يحميه إذن؟ ومن يقف وراءه ويشجع عليه؟
ولماذا التمهل في إصدار قانون الصحافة والإعلام الموحد الذي أعدته لجنة موسعة تعبر عن كل مكونات العمل الإعلامي في مصر من المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين إلى اتحاد الإذاعة والتلفزيون وغرفة صناعة الإعلام ونقابة الإعلاميين تحت التأسيس، فضلاً على أساتذة مختصين وخبراء قانونيين؟
عندما دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي أثناء زيارته لنيويورك إلى دور أكبر للإعلام المصري في تصحيح الصورة السياسية لبلد يخوض حرباً ضارية مع الإرهاب؛ فإن المأساة؛ أن بعضاً ممن هم مدعوون للتصحيح متورطون في المستنقع.
لا يمكن لمثل هذا النوع من الإعلام أن يكسب قضية واحدة أمام الضمير الإنساني، ولا أن يقنع أحداً في العالم.
في الأيام الأخيرة توسعت منابر إعلامية في نظريات المؤامرة من دون أدنى معرفة بالملفات التي تتحدث فيها.
كانت هناك رواية مصرية عن حقائق ما جرى في لندن أثناء زيارة الرئيس تشرح وتوضح وتجيب عن سؤال: هل هناك أزمة أم لا؟ وإذا كانت هناك أزمة فما طبيعتها وحدودها. وكانت هناك رواية أخرى عن تعقيدات العلاقات مع موسكو على خلفية حادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، إذا كان «شهر العسل» بين العاصمتين قد انتهى، تبعاً لما ذهب إليه بعض الإعلام. الأزمة هنا في السياسة قبل الإعلام. ارتباك الأولى أفضى إلى فوضى الثاني.
كان الإعلام البريطاني شرساً في نقد الرئاسة المصرية، وحججه معتادة منذ تحولات (30 يونيو)، في مصر وإطاحة جماعة الإخوان المسلمين من السلطة.
الذي تسرب افتقد التدقيق في المعلومات؛ متعمداً الإساءة والتشهير. وأهمه أن رئيس الوزراء «ديفيد كاميرون» غادر اجتماعه الرسمي مع الرئيس السيسي لمدة 25 دقيقة لحضور اجتماع عاجل في نادي المحافظين المجاور. القصة بذاتها مهينة، غير أن بعضها صحيح وصلبها خاطئ.
ما هو صحيح أن «كاميرون» غادر الاجتماع الرسمي لهذه المدة. وما هو خاطئ سبب المغادرة.
فقد أطلع «كاميرون» ضيفه المصري بصورة مسبقة على الكلمة التي سوف يلقيها في المؤتمر الصحفي المشترك، طالباً أن يأخذ وقته للتشاور مع معاونيه، وغادر الاجتماع الرسمي لهذا السبب.
كان الكلام حساساً لأنه يتعلق مباشرة بوقف الرحلات السياحية البريطانية إلى شرم الشيخ.
غياب الرواية الرسمية دفع الإعلام في أحد اتجاهين. إمّا الحديث، بلا سند مقنع، بأن الزيارة نجحت، ولم يكن ذلك صحيحاً. وإما الهجوم العاصف على بريطانيا من دون حجة واضحة باستثناء نظرية المؤامرة.
«‬الغلظة الدبلوماسية» لا تعني بالضرورة تآمراً.‬ إعادة كل شيء إلى المؤامرة تحللٌ من المسؤولية. بنفس المنطق فإن ما يقال في بعض الإعلام مؤامرة على مصر ومصالحها العليا.
مصر أكبر بكثير من هذا التطوع بالجهل، الذي ينزع عنها قداسة حربها مع الإرهاب.
في بعض الكلام عن موسكو تخريب لأي رهانات في الانفتاح على المراكز الدولية المتعددة.
هناك تباينات حادة بعض الشيء في إدارة أزمة سقوط الطائرة؛ لكنها لا تعني طلاقاً مبكراً بعد «شهر عسل» سريع بين العاصمتين.
القرارات الروسية خشنة أكثر من اللازم، مثل تعليق رحلات طائرتها إلى مصر كلها لا شرم الشيخ فقط، ومنع طائرات «مصر للطيران» من الهبوط في أراضيها.
غير أنها بالعمق؛ تعكس خشيتها المفرطة من تكرار حادثة سقوط الطائرة، بما ينال من هيبة رئاستها ويشكك في التزامها بسلامة مواطنيها.
المشكلة أن الإعلام المصري كما الخطاب الرسمي ينكر أي احتمال لعمل إرهابي أسقط الطائرة، وهذا خطأ فادح في إدارة الأزمة. العالم كله يتعرض لمثل هذه العمليات الإرهابية، وذلك ليس عاراً.
في الأجواء العالمية المشحونة بالمخاوف من ضربات إرهابية محتملة هنا وهناك، لا أحد مستعداً أن ينتظر نتائج التحقيقات في سقوط الطائرة الروسية التي قد تمتد لعام على الأقل. الإجراءات الاحترازية سيدة الموقف كله، وافتراض الأسوأ هو السيناريو المعتمد.
رغم ذلك أكد الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» لنظيره المصري بحسب معلومات مؤكدة: «اصبروا بعض الوقت قبل أن تعود حركة الطيران إلى سابق عهدها».
الكلام العشوائي، كما التفلت الأخلاقي، يضرب في صورة البلد بلحظة صعبة من الحرب على الإرهاب، التي باتت عالمية بالمعنى السياسي الكامل.