تجديد الوعد في عهد ترامب

حجم الخط

رغم مرور عاما آخر بعد المائة على إصدار وعد بلفور المشؤوم، وأفول شمس إمبرطورية بريطانيا الاستعمارية التي كانت لا تغيب عنها الشمس. ورغم كل المتغيرات السياسية التي طرأت على العالم لم تتخل بريطانيا الدولة الاستعمارية العجوز عن نزعتها العنصرية الاستعلائية، وكأنها تريد بذلك أن تحافظ، ولو كان ذلك بأسلوب دبلوماسي على دورها السياسي العالمي الرئيسي الذي فقدته بانهيار إمبراطوريتها الاستعمارية التي كانت الموزعة بين قارتي آسيا وأفريقيا.

بريطانيا التي شاخت، لم تعد الدولة الغربية الرأسمالية العظمى في العالم، فقد تراجع دورها في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية مما دعا واشنطن لاعتماد نظرية ملء الفراغ في الشرق الأوسط، وهي النظرية التي صاغها جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي الشهير في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وكان من تطبيقاتها السياسية والعسكرية في تلك الفترة البدء بالشروع في إنشاء الأحلاف الاستعمارية، وكان أهمها حلف بغداد في الشرق الأوسط الذي أسقطته ثورة تموز العراقية بانهيار النظام الملكي الهاشمي في بغداد.

ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ عقد الخمسينيات الذي شهد أيضا اندحار العدوان الثلاثي عن مصر، الذي جاء رداً على القرار المصري بتأميم قناة السويس، أصبحت بريطانيا تمارس أدوارها ومواقفها السياسية إزاء القضايا الدولية، في إطار السياسة الخارجية الأمريكية، وذلك بخلاف فرنسا مثلاً الدولة الاستعمارية الأخرى التي ارتبط تاريخها الاستعماري بتاريخ بريطانيا العظمى الاستعمارية، وقد تراجع أيضا دورها السياسي في المشهد الدولي عما كانت عليه من قبل، خاصة بعد انتصار ثورة الجزائر، لكنها بقيت رغم ذلك محافظة على دورها السياسي المستقل في إطار الاتحاد الأوروبي، الذي تحاول دائما بسياساتها المستقلة التي توصف عادة على ألسنة النخب السياسية الفرنسية بالديجولية، نسبة إلى الجنرال ديجول، أن تجعل هذا الاتحاد قطبا دوليا مستقلا عن مواقف الولايات المتحدة في بعض القضايا السياسية والاقتصادية الدولية، وكذلك أيضا في مسألة البحث عن حلول للأزمات الساخنة كالسورية والأوكرانية والخليجية، وكل تلك الاستقلالية التي تميز فرنسا وكذلك الاتحاد الأوروبي والتي تصل في بعض الأحيان إلى درجة التعارض تتم في إطار عدم التوافق في المصالح القومية بين دول النظام الرأسمالي العالمي . الحكومة البريطانية اليمينية وبإصرار وصلف وعنجهية رئيسة الوزراء تيريزا ماي التي احتفلت في العام الماضي بذكرى مرور مائة عام على إصدار وعد بلفور المشؤوم، وعلى عدم الاعتذار للشعب الفلسطيني الذي راح ضحية الصراع الحضاري التاريخي بين الغرب الاستعماري والوطن العربي عن جريمة هذا الوعد المشؤوم، الذي أعطى لليهود في الشتات حقا في اغتصاب أرض كنعان العربية، أرض الشعب الفلسطيني الوطنية التاريخية لإقامة كيانهم العنصري العدواني عليها لأجل المحافظة على المصالح الاستعمارية في المنطقة، هذا الموقف السياسي البريطاني ما هو في الواقع إلا استمرار للسياسة الاستعمارية الغربية، في دعمها لتجديد أهداف المشروع الصهيوني لممارسة سياسة التوسع الاستيطاني والعدوان، وقد صدق كمال الدين حسين وزير الإرشاد القومي المصري وأحد ضباط ثورة 23 يوليو المجيدة، حين أطلق عبارته الشهيرة عن حقيقة هذا الوعد حيث قال في أحد كلماته السياسية التوجيهية التعبوية: أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق، وقد جاءت أيضا هذه العبارة التي أصبحت أشبه بمقولة سياسية تتردد عند الحديث عن ذكرى وعد بلفور، في رسالة هامة كان قد تبادلها الرئيس جمال عبد الناصر مع الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي قبل مقتله في عام 1963، من القرن الماضي على يد أحد عملاء الحركة الصهيونية . عبارة هامة دخلت أدبيات التاريخ السياسي العربي لأنها تكشف خلفيات و دوافع هذا الوعد المشؤوم الذي أطلقه وزير الخارجية البريطاني الدبلوماسي العنصري آرثر جيمس بلفور، الذي كان يدين بانتمائه السياسي إلى النظرية البيولوجية العرقية التي تبرر الهيمنة الاستعمارية الغربية على الأمم الأخرى .

هكذا نرى أن الحكومة البريطانية بتأثير النزعة العنصرية الاستعمارية الاستعلائية التي ما زالت تعشعش في الأدمغة السياسية البريطانية الأنجلو سكسونية، مصممة على عدم الاعتذار للشعب الفلسطيني لما ارتكبته بريطانيا العظمى الاستعمارية من خطأ تاريخي بحقه، وكذلك بعدم تصحيح ذلك بالاعتراف بدولة فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة على غرار معظم دول العالم، وكل هذا الموقف السياسي الرسمي الأرعن والأحمق، الذي تتخذه حكومة تيريزا ماي اليمينية، حيث ما زالت تعيش في نطاق عقلية حركة الاستعمار الأوروبي الذي مضى على غير رجعه بانتصار الثورات الوطنية في بلدان العالم الثالث .

يأتي هذا الموقف من هذه الحكومة العنصرية، حتى لا تثير غضب واشنطن في عهد ترامب، الرئيس الأمريكي الأكثر عنصرية هو الآخر بانتمائه لنظرية تفوق الرجل الأبيض السياسية العنصرية البيولوجية، حرصا منه على هيمنة المصالح القومية الأمريكية الإمبريالية. وهكذا أيضا يتضح من سرد هذه الوقائع السياسية المتصلة بوعد بلفور المشؤوم، أن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في المحصلة النهائية هما دولتان تتقاسمان الأدوار السياسية في نكبة شعبنا الفلسطيني، فالأولى أعطت الشرعية للمشروع الصهيوني في مرحلة النشأة والتأسيس، والثانية تعطي الكيان الصهيوني الدعم والمساندة التامة من خلال معاهدة التحالف الاستراتيجي كي يحقق هذا المشروع في هذه المرحلة كامل أهدافه العنصرية.