بين روح الأدب والرومنتطيقية الثورية

حجم الخط

 

ذات لقاء يساري عربي، وفي القاعة عينها، تسلل نحوي واضعاً كفه على كتفي وبوشوشة خفيضة، قال: "إن لك عندي بشارة"، ثم ابتسم متابعاً كلامه، "الطريق" ستصدر مجدداً..، لكن إسمع، "أريد منك نصاً أدبياً- فصمَتُ، لكن صمتي حينها لم يكن يعني تمنعاً مني، وعدم رغبتي في كتابة النص الأدبي الذي طلب- ثم أكمل مازحاً: ليس لديك حق الرفض، هذا أمرٌ عسكريٌّ. عندها ألقيت عليه تحية المقاتل. ثم عاد إلى قواعده الخلفية بنشوة المنتصر، فاعتبرت ذلك تكريماً لي وليس أمراً من سيد القلم الذي نحن في حضرته. وفي المرة الثانية، عندما طلبت منّي "مجلة الطريق" أن أكون على منبر محمد دكروب، مع هذه القامات الأدبية وأساتذتي الكبار وبين حضوركم المميز، شعرت حقاً أنني نلت من التكريم نصيبي مرتين.

إنّ الحدَّ الوهميَّ بين الحرية والإبداع، بين الفكر والحلم، بين الأدب والثورة، بين مثقف منعزل في خلوته واخر يدخل المضمون. مثقف ينشغل في قاعة الدرس والتّرقي في المناصب الوهمية وآخر همه التغيير الاجتماعي، وفي زمن الاختلاط المشوش بالجهل والجاهلية  تكون فيه القراءة بدعةً، والكتابة ضلالا والإبداعُ زندقةً، صورتها المحزنة تبدأ من وأد الكلمات إلى وأد الأفكار فوأد الأوطان والتي فيها يوصف الكتّاب "بالملاحدة وأولاد الحرام ". ففي هذا الزمن كيف يمكن التوليف بين بشاعة القتل والجمال الإنساني ؟ كيف نجمع بين لغة الحرية وفنون الفتنة ؟ وكلها تتجول حذرا بين القذيفة والقذيفة ، أو كقاتلٍ تائه بين جثتين.

 عند هذا المشهد يحضر دكروب و"الطريق"، يتكئ على تجربة ثرية وثورية، تؤكد ان الحقيقة يستحيل أن  تصادر او تعتقل أو يلوى عنقها وكذلك الأفكار لا  يمكن قطع رأسها . عندما يقاتل على جبهة الكلمة مستندا لذهنية "التفكير" فهو حتما على جبهة الحرية  النقيض لذهنية "التكفير". لحظة تكون مجلة الطريق شرعيته و شراعه الاجتماعي ومكانته الثقافية بوصفها مجلة فكرية لبنانية وعربية قيّمة، أغنت تكوينه الثقافي والمعرفي، ووفرت له الاستمرارية والموضوعية و الانفتاح على الفكر والإبداع والأدب، وأعطته مناخات جديدة للكتابة. فهو بذلك لم يكشف لنا ما أضافته "الطريق" اليه لنكتشف لاحقاً بصماته عليها وفضله عليها أيضاً.

ان الأدب ليس سلعة والاديب ليس موظفاً طيّعاّ لتعطيل حاسّته الاخلاقية ، أو مصادرة روح الأدب أو التخلي عن المعنى . كما يقول بريخت : " من يكتب أدبًا رديئًا فإنه يخون الجماهير"، لأن نظرية الأدب هي إفصاحٌ عن النفس وما يجيشُ ويفيضُ ويتولدُ داخلها، وتكونُ رسالةُ المثقفِ العضويّ الذي يترك المجتمعُ بصماتِه في عقله الباطني ويضعُ له إطارَه الشعوري، وإيقاعَه الخاصَّ النّابضَ على وقعِ وهمومِ وحياةِ ويومياتِ الناس، والقدرةِ على إيصال التجارب المبنيةِ على قيمةِ التخيل و المعنى والإيحاء. لا يحتاج الأديب إلي كارثة انسانية لاكتشاف ما يشبه البديهيات، رسالته الكلمة هي رمزٌ لصداقته الخاصة مع الحياة ومن دونها يفقد الانسان نفسه. لذلك كلما انفجر الحلم يزداد تشبثا بانسانيته.

 يحضرني تساؤلٌ " كافكا" :" كيف أؤمنُ أننا يجب أن نقرأ فقط تلك الكتب التي تعضّنا وتغرزُ أنيابَها فينا؟ فإذا كان الكتابُ الذي نقرأه لا يهوي بقبضته على أدمغتنا فيوقظها، فلماذا إذاً نقرأ ذلك الكتاب؟ " أي الكتاب الذي  يحرك العقلَ ويترك أثرَهُ في الوعي. إنه الأدب الاستباقي لكل فعلٍ ثوريٍّ  بفعلٍ ثوريٍّ مقاومٍ، أو فعلِ تغييرٍ نطلق عليه تسمية "الأدب الملتزم" لأنه مهد الأرض لسؤال الهوية والوطن والإنسان والحرية.

وعلى هذا فإن تحديات الأدب وسؤال الإبداع تتولد من إرادة الكتابة، ومن إرادة من أبدع هذه الكتابة، فإن أصيب الأدب بالتصلب والجمود يكون فقد ثوريتَه وقدرتَه على التغيير، وارتهن لفن الخطابة والشعارات، أو ارتهن لمادة " التوجيه المعنوي". ومهما بلغت حالات ترداد الحديث عن أدب المقاومة  فلن يكون كذلك، وعلى طريقة البيع عبر الدق المتواصل على الطبلة، وبأعلى صوت ممكن، لذلك فإن المسألةَ وفق احد الفلاسفة: " إن المعرفةَ الأدبيةَ هي معرفةٌ بكنه الأشياء وحقيقتِها، وليست مجردَ انفعالاتٍ هوجاء "، ويمكن رؤيتُها بالتحديات الآتية:

أ- تحدي التقليد والإبداع : أي الكلاسيكية والتجدد، فالحريةُ هي الإبداع، لأن ليس كلَّ قديم أصالةٌ، وليس كلَّ تحديثٍ معاصرةٌ ، فأن تحدي الأدب يكمن في القدرة على الاستجابةِ لحركةِ الواقع المتغير باستمرار، والاستفادة بقراءة الماضي، ولكن في إطار مجرى الزمن الإنساني، فحين يتجددُ  الأدب ويرتقي إلى مستويات أعلى وبقيمة أغنى وأكثر إنسانية، ترقى كلماته إلى المبتغى منه، وما التطورَ التدريجي الذي جرى على نمط الرواية العربية عموما فقد  أوصلها إلی حدٍ صارت فيه قابلةً للقراءة علی المستوی الإنساني.

لقد كان للناقد محمد دكروب تجربتُه  في البحث في جوهر المسائل، كعملية العثور على الرومانتيكيّة الثورية  ذاتها حتى داخل الواقعيّة الاشتراكيّة من غير أن تتناقض مع الواقع أو تتخلى عن انحيازها المبدئي و تفاؤلها التّاريخي الصّادق، لقد تجرأ  ولم يرجئ عمليةَ التنقيب عن هذه الصلة في وقت بدت فيه "الرومانتيكية هي التعبير الأكثر أهمية في الأدب الحديث، لذلك صار تحدي التجديد هو الباعثُ الأول، وشكل ارتباطُ الأدب بالثورةِ  والثورة  بالأدب؛ صورة جديدة ومطلقة للإنسان، وهي تربط هذا على نحو مميز بقوة التخيل والإيحاء حين تكتب الأشياء العادية والبسيطة وبطرق غير اعتيادية تضيف للأشياء نسجاً فنياً، و رؤيةً أكثر جمالية، ويكون الإبداع حين يبدو الإنسانُ في الأدب الرومانطيقي، وللمرة الأولى كَمَنْ يتولَّى خلْق ذاته.

 لقد كان ذلك جلياً في معنى النقد الأدبي الذي سجله دكروب في كتابه " الأدب الحديث والثورة " ويُظهر فيه كيف يكون الأدبُ ضدَ الواقعية حين تحتفي بالمعنى والدلالة وتهمل البنية الداخلية، وهو ضد الحداثي حين ينشغلُ بتفكيك البنية ويهمل سواها، فهو يدافع عن الحداثةِ حين يقول: إن الحداثةَ هي "التواجد الفعال في العصر، والتفاعل مع العصر والإبداع فيه من مواقع التقدم وضرورات التغيير والتجديد في الفن وفي المجتمع على السواء...". وما كتبه أشبه بنصوصٍ في نقد النقد ومساءلة الحداثة والواقعية.

ب-  تحدي الذاكرة بين التمجيد والتجديد: لأن وظيفة الأدب، وخاصة السرد منه هي في حل لغز الذاكرة  ضمن صياغةٍ جديدةٍ حتى تخرجَها من الإقصائية أو التضاد، إلى علاقة تواصل واستمرارية بين ذاكرةٍ كلاسيكيةٍ وأخرى حديثة، عامودية وأفقية، زمانية ومكانية، وإن الذاكرةَ القديمةَ سُجلت بواسطة السرد التسجيلي المعاش الذي وُجدت له مكانة مازالت تورّث وتخلّد في الذاكرة الجماعية، وبين ذاكرة حديثة  تقلّصت إلى مستوى أن مفتاح الجملة بات أهم من الجملة، والسطر الأخير يلخص النص، كأننا أمام جيلٍ لم يعد بحاجة لمعرفة كل شيء بل من كل شيء شيء ، يحاول ابتكار ذاكرته الخاصة التي ليس لها علاقة بالأصل. إن النموذج الصحيح  يكون من بوابة تحويل العواطف  من ذاكرة جامدة إلى ذاكرة حية، كتجربة الأدبُ الفلسطينيُّ المقاوم شعراً وروايةً وفكراً، عندما تحولت بياراتُ حيفا وبرتقالُ يافا وحجارةُ القدس وعنبُ الخليل، وزيتونُ جبل النار إلى حركةٍ عقلية تنويرية، وثم إلى فعلٍ مقاوم، وبذلك نقل الأدبُ المقاومُ ذاكرة الإنسانَ الفلسطيني من السلبي إلى الإيجابي وأوصل بين ذاكرتين لا انقطاع بينهما في معركة تحرير أرضه، صيانةً لتراثه وهُويته وبقائه، مطالباً بحقوقه الوطنية في العودة والحرية والاستقلال.

ج- تحدي إعادة إنتاج المعنى: بوصفه القيمة المضافة من خارج الشروط الشكلية للمعنى إلى المعنى ذاته، تحدي صيانة وبناء وإنتاج المعنى، وإن وظيفة أدب المقاومة لا تقف عند صناعة النحيب السلبي الإستحواذي والبكاء على الأطلال، أو الاستمرار بصيغةِ المبالغة بالوجع ووصف الألم، معتقداً أنه إذا جعل النكبة أكثر إيلاماً ونزفاً كان استيعابُ العالم  للقضية أكثرَ وبصورة أعظم.

 فالأدب المقاوم يكون مقاوماً في مواجهة التخلف، وكل رواسب الانحطاط والفساد  والرجعية، ويكون الأدب مقاوماً حين يكون تحرريا بامتياز وتقدميا ينطلق في رحاب الحياة لاجتراح معجزة التقدم الإنساني، كما أن خسارة  المعنى هي المقدمة الأولى لخسارة الحرب، شرط النصر هو في استمرار الكفاح  من أجل إنتاج الغاية الجامعة والفكرة المحفزة  لتلك القوة الروحية في ميزان المعنى والمعنويات  مثل "معنى فلسطين" .

إن الصراع مستمرٌ بين جبهتين، واحدة تحمي معنى فلسطين،  وتعيد إنتاجه باستمرار في العقل والوجدان والروح، وأخرى تسعى لخلق التباس بين النضال ومعناه الوطني، وبين معنى الوطن من أجل نفي وجوده وتدميره ومحوه إن استطاع. إن الأدب المقاومَ ساهم  في وعي الهزيمة من دون المبالغةِ بالوجع أو المبالغة بالبطولة، لأن الهدف ليس صناعة سوبرمان أو شخصية المنتصر الوهمي، بل هو يقدم شهادة حية عن سؤال الذات وعن من نكون، فهل نحن أبطال أم ملاحقون؟ بحارة أم غرقى، مقاتلون أم قتلى؟ والحقيقة تقول: إن المنتصرَ قد يكون شريراً وليس بالضرورة أن يكون عفيفاً، فهناك أشخاص صاغوا بدمهم نظرية الحرية، وصانوا المعنى من السرقة و التزوير عبر الوعي التفاؤلي الإنساني في مواجهة الظلم والظلام والظلامية، لأنها الشكلُ المكمّلُ للجهلِ والقهر والاستعباد والاحتلال، فإذا كان في الأدب الإبداع الذي هو توأم الحرية فإن المعنى هو غاية الإنسانية . 

في سبيل ذلك بينما نتقاسم كِسرة الخبز وورقَ الكتاب، والخيمة والمنفى والوطن والذاكرة، نستعيد نفحاتٍ لرفاقِ القلم في التلاقي التاريخي على خط الطريق وفلسطين ، ولا غرابة ان تكون أول مقابلات محمود درويش في مجلة عربية، في شهر أكتوبر من العام 1968 ، أجراها  الناقد محمد دكروب ونشرتها مجلة الطريق اللبنانية  في عدد خاص عن أدب المقاومة في فلسطين،  حيث قال شاعرنا الكوني درويش : «إنني أعتبر نفسي امتداداً نحيلاً، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة، ابتداءً من الصعاليك حتى ناظم حكمت ولوركا وأراغون الذين هضمتُ تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدّوني بوَقودٍ معنوي ضخم"".

 رغم تبدل الأحوال وتطور وسائل الخداع واختلاف الأشكال ما زالت معركة راهنة وقائمة من أجل التحرر والحرية " إن أنصار الحرية يلتقون على الدوام مهما كانت عوائقُ الزمان والمكان " هكذا قال تشي غيفارا، لن ننتظرَ دورَنا في المذبحة، لأن الشمسَ أقوى من الظلام، الثورة الحقيقة من تصون قيم الإنسان ورفعة المعنى ودلالاتها النبيلة، وتشق طريقاً لنهضة تقدمية بروح متجددة، وحدها الطريق الصالح إلى تحقيق الأهداف العظيمة التي حلم بها العظماء في الصميم، فكان رجال القلم والفكر والكلمة ومحمد دكروب واحد منهم.

لذلك إن القيمةَ الإبداعيةَ التي رعاها المثقف والمفكر والناقد دكروب ، قيم تجديد روح الأدبِ من خلال تأصيل وتحديث مضمون الثورةِ والذاكرة  والمعنى، هي قيم باقية ولم ولن تموت.

 

 

*  نص محاضرة نشرت في مجلة الطريق "عدد خاص"  وألقيت في ندوة (محمد دكروب : المثقف الثوري والتغيير) تمت بدعوة من مجلة الطريق اللبنانية ، الجمعة 28آذار 2014 في قصر اليونسكوـ  بيروت .