المؤتمر الأول آب 1968 وانشقاق الجبهة الديمقراطية

2512_pppa.jpg
حجم الخط

 

بدأت هذه المحطة مع انسحاب جبهة التحرير الفلسطينية من الجبهة الشعبية في أكتوبر عام 1968 لتشكل ما أصبح يعرف باسم "الجبهة الشعبية – القيادة العامة" ونجم عن ذلك أن الجبهة الشعبية أصبحت بشكل أو بآخر هي الفرع الفلسطيني لحركة القوميين العرب، فالفصيل الآخر في الائتلاف الذي تشكلت منه عند انطلاقتها ونعني به "أبطال العودة" كان فصيلاً يعود في أصوله إلى حركة القوميين العرب، الأمر الذي نجم عنه إحداث تحول نوعي في نظرة الجبهة الشعبية لنفسها، فهي لم تعد الإطار الجبهوي الذي يضم كافة فئات وقوى الثورة، بل أن الفرصة لكي تصبح مثل هذا الإطار باتت تتبدد شيئا فشيئا، وأصبحت بالدرجة الأولى هي فصيل أو تنظيم أساسي من تنظيمات الثورة الفلسطينية.

وباختصار يمكن القول أن المحطة الثانية تمثلت في احتفاظ الشعبية بالاسم رغم إدراكها وتصرفها على أساس أنها فصيل أو حزب للطبقة العاملة فكرا وسياسة، وليس كإطار كما يدلل الاسم الذي لم يجر استبداله جراء الرصيد النضالي السياسي والجماهيري الذي تحقق في ظله .

وفي هذه المحطة ، المنعطف ، شهدت الجبهة الشعبية  احتدام حركة الجدل والحوار الداخلي بين العناصر القيادية والكادرية في الجبهة ، وقد كانت حركة الجدل والحوار تدور حول قضايا نظرية وسياسية وتنظيمية، وقد انتهت هذه المرحلة بانشقاق الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الوارد لاحقا.

فمنذ تأسيسها في 11/12/1967 ، لم تتوقف مظاهر الخلافات الداخلية السياسية عموماً والفكرية على وجه الخصوص في المراتب القيادية الأولى للجبهة، الممتدة من إرث حركة القوميين العرب قبل هزيمة حزيران/1967 ، فبعد أقل من أربعة شهور على تأسيسها ، وعلى إثر انسحاب أحمد جبريل ، تفاقمت الخلافات الفكرية في الجبهة عموماً، وفي الساحات الخارجية ، خصوصاً الأردن ولبنان ومصر، وبدرجات أقل الساحات الأخرى ، حيث تزايدت وتائر الحوار والاختلاف الداخلي الحاد في صفوف القيادة والكوادر القادمة من  حركة القوميين العرب ، وتمحور الخلاف حول القضايا الأيديولوجية من ناحية والموقف من البرجوازية العربية والأنظمة الوطنية من ناحية ثانية ، وبناءاً على ذلك بادرت القيادة إلى التحضير لعقد المؤتمر الوطني العام ، منذ أوائل نيسان عام 1968 ، حيث تم إعداد مشروع الوثيقة الرئيسية التي عرفت بـ"وثيقة آب" وقامت قيادة الجبهة آنذاك، وقبل انعقاد المؤتمر الوطني الأول (مؤتمر آب 1968) بشهر على الأقل ، بتوزيع مشروع الوثيقة للنقاش ، حيث تم عقد المؤتمر في منطقة الأغوار في الأردن في أجواء غير مواتية إطلاقاً –كما اشرنا من قبل- إلى جانب تفاقم الصراعات الداخلية والتكتلات بصورة غير مسبوقة عشية المؤتمر (رغم وجود القائد جورج حبش معتقلاً منذ 19 /3/1968 في سجون سوريا )، وفي مثل هذا المناخ المشحون ، لم ينجح المؤتمر في استعادة الوحدة الداخلية ، السياسية والفكرية والتنظيمية لأعضائه، بل تكرست أسباب وعوامل الانشقاق الذي بات مؤكداً لأسباب وعوامل ذاتية ، لم تتفهم مضمون ومغزى الاختلاف الديمقراطي القائم على احترام الرأي والرأي الآخر، بما يضمن استمرار وحدة الجبهة وتماسكها عبر الحوار العقلاني والاحتكام للهيئات بصورة ديمقراطية، ولم تتفهم أيضاً مساحة التوافق السياسي والفكري بينهما ، التي تجلت بوضوح في مجمل الأفكار والمقولات السياسية التي وردت في "وثيقة تموز 1967" التي قام بصياغتها القائد جورج حبش وتم إقرارها من قيادة الحركة آنذاك ، الأمر الذي كرس المظهر السلبي للعلاقات الشخصية الداخلية، التي بررت نفسها عبر مواقف ورؤى أيديولوجية، يسارية طفولية أقرب إلى العدمية ، في مقابل بعض القيادات التي تشبثت بالمواقف والأفكار القومية التقليدية دون وعي منها لأهمية وضرورة تطوير الفكر القومي والتحامه بالفكر الماركسي ومنهجه ، رغم أن الغالبية الساحقة من أعضاء الجبهة وكوادرها تميزوا بإخلاصهم ووعيهم العفوي البسيط لبعض قضايا ومفاهيم الاشتراكية العلمية والماركسية بمختلف تفريعاتها وانتماءاتها اللينينية أو الماوية أو الجيفارية، وهكذا بات الطريق ممهداً أمام الانشقاق الذي تحقق بفعل أسباب ذاتية اساساً وبمساعدة وتشجيع من قيادة فتح وقيادة البعث الفلسطيني (الصاعقة)  حيث طغت هذه الأسباب وتجاوزت العوامل الموضوعية آنذاك ، ونقصد بذلك التوافق والتقاطع في الرؤى والأفكار المشتركة -من حيث الجوهر – بين وثيقة تموز 1967 وبين نصوص وثيقة آب 1968 وطروحاتها الفكرية وتحليلاتها السياسية ، حيث أن هذه الوثيقة  تضمنت  في نصوصها وجوهرها، مجموعة من الأفكار والمقولات والاستنتاجات التحليلية الخاصة بالنظام العربي الرسمي، وهزيمة حزيران 1967، متوافقة أو مستوحاة من "وثيقة تموز" التي صاغها القائد جورج حبش على إثر هزيمة حزيران، وارتباطاً بذلك ، فإن الانشقاق لم يكن ناتجاً عن رؤيتين أو موقفين متناقضين، أحدهما "يميني" والأخر"يساري" بقدر ما كان انعكاساً لمواقف ذاتية ناجمة عن تراكمات سالبة تركت بصماتها على طبيعة العلاقات الشخصية التي سادت في قيادة حركة القوميين العرب تاريخياً، منذ منتصف الستينات حتى تأسيس الجبهة الشعبية وصولاً إلى انعقاد مؤتمر آب وأجواءه الانقسامية، التي حكمت العلاقة التنظيمية بين معظم أعضاء الهيئة القيادية الأولى في الحركة في تلك المرحلة، وعكست نفسها على بقية الأعضاء والمراتب الأخرى بصورة ذاتية غير موضوعية .

 هذا وقد تضمنت وثيقة آب أو التقرير السياسي الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مقدمة تاريخية وتحليلية للوضع الفلسطيني، ودروس هزيمة حزيران 67 ، ثم تناولت الأوضاع العربية والقضية الفلسطينية بعد حزيران ، وأخيراً حركة المقاومة الفلسطينية في المرحلة الراهنة ، وطريق الخلاص الوطني، وسنلاحظ عند قراءة موضوعات هذه الوثيقة ، حجم مساحة الاتفاق بين الفريقين في تحليلهما لمجمل الأوضاع السياسية السائدة في تلك المرحلة ، إلى جانب الاتفاق المبدئي على مساحة كبيرة من المنطلقات السياسية و الأيديولوجية ، الأمر الذي يؤكد على غياب المبرر الموضوعي للانشقاق .

فيما يلي نقدم عرضاً مكثفاً لأهم القضايا السياسية والفكرية كما وردت في وثيقة آب 1968، ففي المقدمة استعرضت الوثيقة " العلاقة الجدلية اليومية والحتمية بين ما يجري في البلاد العربية ومصير القضية الفلسطينية . فكل ما جري ويجري في البلاد العربية على امتداد التاريخ الفلسطيني , يمس بهذا الشكل او ذاك وضع ومصير فلسطين والقضية الفلسطينية, وأي محاولة للقفز عن هذه الموضوعة الجدلية، هي محاولة مشبوهة إما رجعية أو استعمارية أو صهيونية" .

ثم تنتقل الوثيقة  إلى  الحديث عن مرحلة ما بعد هزيمة حزيران 67 "حيث تجتاز المسألة الوطنية الفلسطينية اخطر واشق مراحلها، و ارتفعت ولا زالت ترتفع بعض الأصوات الفلسطينية والعربية اليمينية والرجعية, مطالبة بعزل حركة المقاومة الفلسطينية عن كل الأحداث والتطورات في المنطقة العربية تحت شعار "عدم التدخل في الأوضاع العربية" ,إذ أن اليمين الرجعي الفلسطيني الذي يحتضنه اليمين الرجعي العربي يزرع بدعوته  إلى  الفصل بين المسألة الفلسطينية والأوضاع العربية بذور هزيمة جديدة سياسية أو عسكرية , تنتهي بتصفية القضية الفلسطينية بالتسوية السياسية المقترحة وفق قرار مجلس الأمن رقم (242)  الصادر في,22 تشرين الثاني سنة 1967" .

ثم تستعرض الوثيقة دروس هزيمة حزيران 1967 حيث تؤكد على ان "هذه الهزيمة لم تكن هزيمة عسكرية فقط, بل كانت هزيمة لجميع التكوين الطبقي والاقتصادي والعسكري والأيديولوجي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي (الرسمية والشعبية)، فقد دخلت الأنظمة البرجوازية الصغيرة حرب حزيران دون آفق أيديولوجي ثوري، ودون برنامج اقتصادي وسياسي وعسكري يستطيع الصمود في مواجهة الهجمة الإمبريالية الصهيونية" .

"وفي اللحظة التي برزت فيها خيوط هزيمة الجيوش النظامية سارعت أنظمتها لطلب أو الموافقة على "وقف إطلاق النار، إذ لم يكن أمام انظمه البورجوازية الصغيرة إلا واحدا من اختيارين.... إما اختيار الطريق الفيتنامي الكوبي بإحداث انقلاب شامل في برنامج العمل الوطني، لتعبئة كافة الطاقات المادية والبشرية والمعنوية للمجتمع، ولحركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية، على طريق تسليح الجماهير، وشن "حرب تحرير شعبية ثورية" ضد كافة المصالح والمواقع الاستعمارية, والصهيونية والرجعية المتحالفة مع الاستعمار, ووضع شعار " مقاتلة إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل" موضع الترجمة الثورية اليومية المسلحة، أو البقاء ضمن المواقع والبرامج التي كانت قائمة حتى حزيران 67 والتي أعطت هزيمة حزيران , معنى هذا أن الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية محكومة بالتراجع المتصل لصالح إسرائيل والامبريالية والقوى الرجعية العربية المتحالفة مع الاستعمار القديم والجديد، وهذا ما حدث – وبكل مرارة – ولم يكن بالصدفة ما حدث" .

وفي تناولها لحركة المقاومة الفلسطينية ، تؤكد الوثيقة أن " حركة المقاومة الفلسطينية مثلت النقطة المضيئة على خارطة الوضع العربي القائمة ، إثر هزيمة حزيران. وانتظرت الجماهير الفلسطينية والعربية منها أن تشق طريقاً جديداً لحركة التحرر الوطني الفلسطينية خاصة، والعربية عامة. فهل تحركت قوى المقاومة على هذا الطريق الجديد؟ وهل مثلت وضعاً وطنياً جذرياً متجاوزاً الأوضاع الفلسطينية والعربية التي أعطت حزيران؟" .

إن التحليل الملموس لممارسة حركة المقاومة السياسية والمسلحة اليومية، كفيلة بتقديم الأجوبة الملموسة، والكشف عن الآفاق الموضوعية والعملية لحركة المقاومة الراهنة ،ارتباطاً بما يلي :

أولا : "في إطار العلاقات العربية : طرحت حركة المقاومة بكافة فصائلها شعار "عدم التدخل في الأوضاع العربية وترجمت هذا الشعار بصورة خاطئة بالرغم من " أنه ليس مطلوباً من حركة المقاومة الفلسطينية أن تنوب عن حركة التحرر الوطني في كل قطر عربي" .

ثانياً : مسألة الوحدة الوطنية الفلسطينية ، وفي ظل سيادة أيديولوجية ونظريات اليمين الرجعي الفلسطيني في كافة أوساط وصفوف حركة المقاومة لم يتمكن أي فريق من فرقاء حركة المقاومة أن يطل على الرؤيا الوطنية الأساسية حول هذه المسألة – مسألة الوحدة الوطنية- وكما فشلت حركة المقاومة  في وضع شعار "علاقات حركة المقاومة الفلسطينية بالأوضاع العربية" في موضعه الوطني والقومي الصحيح... فقد فشلت فشلاً مطلقاً في وضع شعار "الوحدة الوطنية الفلسطينية" في موضعه الصحيح، وترجمت حركة المقاومة شعار " الوحدة الوطنية" –بالممارسة والنتائج- في صالح الإطارات الطبقية والسياسية الرجعية التي حكمت على نفسها وعبر تاريخها السياسي الطويل بالتخلي عن حركة التحرر الوطني الفلسطينية والانتفاضات الشعبية الفلسطينية.

وفي هذا الجانب تحدد الوثيقة رؤيتها النقدية لمفهوم الوحدة الوطنية بقولها "إن المحاكمة النقدية لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية والثورات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية، تكشف بوضوح عن القوانين الأساسية "الطبقية والأيديولوجية والسياسية" التي قادت الحركة الوطنية إلى الفشل على امتداد هذا القرن، كما تكشف عن القوانين الأساسية التي تقود الحركة الوطنية إلى إمكانات حل معضلات التحرر الوطني الفلسطيني وتحرير الوطن، وهنا تتضح مسألة العلاقة الطبيعية السياسية بين كافة الطبقات في مرحلة التحرر الوطني" .

فالوحدة الوطنية الفلسطينية –حسب الوثيقة- هي " ضرورة وطنية سياسية ولكن أية وحدة وطنية؟ إنها الوحدة الوطنية التي تحقق انجازات تحررية، وتقود حركة المقاومة على طريق النصر بتعبئة الجماهير العربية وتسليحها واستنهاض هممها الوطنية الجذرية والجماعية، على طريق حركة مقاومة طويلة الأمد، تعتمد على العنف في مواجهة عدو يعتمد إستراتيجية الضرب بسرعة وتحقيق الانتصار بسرعة . وهذه الوحدة هي وحدة جميع الطبقات والقوى السياسية في ظل قيادة الطبقات الوطنية الثورية التي حملت السلاح على امتداد تاريخ فلسطين الحديث، وحمل أبناؤها السلاح بعد حزيران" . وبدون ذلك –كما تضيف الوثيقة –فإن قيادة حركة المقاومة البرجوازية الصغيرة والكبيرة ستضع حركة المقاومة في مأزق تاريخي صارم سيحولها إلى ورقة تكتيكية ضاغطة تنتظر مصيرها كجزء لا يتجزأ من التسوية السياسية المنتظمة" .

وفي الفصل الأخير بعنوان " طريق الخلاص الوطني" ، تحدد وثيقة مؤتمر آب 1968 طريق الخلاص الوطني بما يلي  :

1-    أيديولوجية ثورية علمية هي بالتحديد أيديولوجية البروليتاريا، معادية للاستعمار والصهيونية والرجعية والتخلف ، تتسلح بها الجماهير وتعتمد بالأساس على الطبقات الأكثر ثورية وجذرية في المجتمع.. إذ أن تجربة بلادنا وكل شعوب الأرض الفقيرة أثبتت أن أيديولوجية البرجوازية الصغيرة غير قادرة وغير مؤهلة لحل معضلات التحرر الوطني والانحياز إلى جبهة الكفاح الطويل الأمد ، والمرير ، لدحر الإمبريالية والقوى العميلة المتحالفة معها. ذلك إن طريق الخلاص الوطني يبدأ بالتسلح بسلاح الأفكار الثورية، أفكار العمال والفلاحين الفقراء الذين يخوض أبنائهم اليوم المقاومة المسلحة على أرض فلسطين .

2-    رفع الوعي السياسي الوطني الجذري لدى الجماهير ، بعيداً عن التهريج والديماغوجية .

3-    رفض برامج الهزيمة وقرار مجلس الأمن السيء السيط ، وفي هذا السياق نشير إلى أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رفضت في مؤتمرها المنعقد في آب 1968 أن يكون شعار الدولة الديمقراطية مدخلاً لبناء دولة ثنائية القومية دون هوية عربية ، ودعت بالتالي إلى قيام دولة عربية ديمقراطية ، على أن تُحَل مشكلة اليهود في الإطار العربي الأوسع ، لا في إطار فلسطين .

4-    إن الطموح لبرنامج خلاص وطني يرفض التراجع ويندفع على جبهة عريضة لن يكون إلا بتغذية حركة الجدل الجارية في صفوف حركة المقاومة وحركة التحرر الوطني العربية لتفرز إطارات طليعية ، مسلحة بأيديولوجية علمية ثورية . كما أن طريق الخلاص الوطني يتطلب إرادات ذاتية جبارة ، ترفض كل ما هو قائم وتدفع إلى الطريق الجديد ، طريق تحويل حركة المقاومة إلى حركة جماهيرية منظمة ، مسلحة بأسلحة أيديولوجية وسياسية ومادية وطنية جذرية في ظل قيادة طلائع القوى المقاتلة التي تمتلك وعياً أيديولوجياً وسياسياً بروليتارياً معادياً لإسرائيل والإستعمار وحلفائه على امتداد الأرض العربية .

نلاحظ هنا ، أنه بالرغم من اتفاق الفريقين على جوهر الافكار المطروحة في وثيقة آب ، إلا أن الفريق المنشق أصر على الاستمرار في ترتيب عملية الانشقاق، بعد أن فشلت كافة محاولات القائد المؤسس جورج حبش لرأب الصدع الداخلي عبر الحوار مع رفاقه عموماً والرفيق نايف حواتمة خصوصاً في كافة القضايا المطروحة محل الخلاف ، لكن هذا الفريق تمترس بوجهات نظر وطروحات سياسية وفكرية كان من الواضح انها تدفع سريعاً نحو الانشقاق، وفي هذا السياق يقول الحكيم " كان لدى نايف حواتمة وبعض الرفاق وجهات نظر في قضايا سياسية وتنظيمية . وكانوا يُخَطَّئون القيادة التقليدية ويعتبرون ان وجهات نظرهم ومواقفهم هي السليمة" .

كانو يقولون مثلاً ان منظمة التحرير الفلسطينية هي افراز بورجوازي واننا عندما نراهن عليها نكون كأننا نعيد للبورجوازية شرعيتها في قيادة حركة التحرر الوطني. وبالتالي فإن علاقتنا مع منظمة التحرير يجب أن تكون علاقة صراع في الدرجة الأولى. وكانوا يقولون أيضاً ان قيادة منظمة التحرير انما هي قيادة يمينية تقليدية وان الجبهة باعت ما تمثله بسبب موقفها المترامي أو الذيلي من منظمة التحرير" .

وكانوا يرون أن التجمع الوطني في الأردن لا فائدة منه وادانوا الجبهة لانها دخلت فيه. وهذا التجمع الذي سموه " التجمع اللا وطني" شجعنا قيامه واشتركنا فيه ليكون عملية اسناد لحركة المقاومة الفلسطينية، تماماً كما الحال في لبنان بالنسبة ل الحركات الوطنية التي تساند المقاومة. وعلى الصعيد العربي كانوا يطالبون بخوض معركة مع الانظمة البورجوازية الصغيرة في تلك الفترة. وكانوا يعتبرون موقف عبد الناصر يمينياً متخاذلاً" .

وعلى الصعيد العالمي كانوا على يسار ماوتسي تونغ بمئة متر وخاضوا معارك كتابية ضد الاتحاد السوفياتي.

وبالنسبة إلى الأمور العسكرية طرحوا مبدأ اعتماد الديمقراطية التامة في البناء العسكري وانه لا يجوز ان تقام قواعد عسكرية في الأردن لان القتال يجب أن يتم داحل الأرض المحتلة.

وكانوا يرون أن البورجوازية الصغيرة يمكن أن تكون معسكراً وطنياً لمرحلة معينة لكن بعد ذلك لابد من خوض معركة معها .

ويضيف الحكيم "لقد ناقشت نايف حواتمة كثيراً وبنفس طويل لأنني ضد حدوث الانقسامات، لكن الرفيق نايف وبعض الرفاق معه لم يتجاوبوا وقالوا ان الجبهة الشعبية حزب بورجوازي صغير لا يمكن ان يتحول إلى حزب ثوري وان اقصى ما يمكنه تحقيقه هو فرز عناصر يسارية ماركسية – لينينية تستطيع المساهمة في بناء شيء جديد" .

وهذه النقطة  كانت بالنسبة إليَّ نقط ة خلاف رئيسي . فأن يدين او ينتقد ممارسة معينة او موقفا معينا في التنظيم شيء ، وان يعلن ان الجبهة الشعبية لا يمكن ان تصبح تنظيما ثورياً شيء اخر  .

وبعد ذلك –كما يضيف الحكيم- أصبحت الجبهة الديمقراطية في موقع المتبني كل المواقف السابقة التي كانت تقول الجبهة بصحتها ، انما بنوع من الذيلية والتبعية بالنسبة الى التجمع الوطني في الاردن والى قيادة منظمة التحرير، والعلاقات العربية عموماً، كما أفادت من المساندة التي لقيها من فتح نايف حواتمة والمنشقون معه. وهذا ذكاء من فتح لأنها في مساندتها للمنشقين لم تكن تتطلع إلى ضرورة قيام حزب ماركسي – لينيني في الساحة الفلسطينية بقدر ما كان يهمها اضعاف الجبهة الشعبية" ، وهذا ما حصل بالفعل حيث تكرس الانشقاق في 22/ فبراير / 1969.

إن هذا الانشقاق الذي قد يتفق البعض على أنه مَثّل  انشقاقاً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً ، رغم كل دوافعه ومظاهره الذاتية والشكلية التي افتقدت الأسباب الجوهرية أو الموضوعية ، إلا أن نتائجه الفعلية أدت إلى تفكيك بنية الحركة وهزها من الداخل، ولكن على الرغم من ذلك الانشقاق ، وما ادى إليه من نتائج سلبية ، وما أحدثه من إرباكات اعاقت تقدم الجبهة الشعبية عبر دورها الطليعي في تلك المرحلة ، إلى أن القائد الراحل الحكيم مع رفاقه في قيادة الجبهة ، استطاعوا تجاوز نتائج الانشقاق ، عبر استعادتهم للثقة المتبادلة بينه وبين قواعد وكوادر الجبهة ، وبالتالي الامساك مجددا ً بدفة المركب أو بمقود الجبهة ، واستعادة وحدتها التي لا تتناقض مع تعدديتها الديمقراطية  الداخلية ، متجاوزين أسباب الانشقاق ونتائجه على الأرض رغم كل مرارتها ، وتمكنوا خلال فترة قصيرة من عقد المؤتمر الوطني الثاني للجبهة الشعبية ، الذي أقر تبني الماركسية اللينينية وتحويل الجبهة إلى حزب ماركسي .

وبالفعل عقدت الجبهة مؤتمرها الوطني الثاني في شباط (فبراير) 1969 وفيه "عالجت مسألة الانشقاق وأوضحت البرنامج السياسي والتنظيمي ، كما قامت  بعملية بلورة لموقفها، عبر برنامج سياسي وتنظيمي، كما قام المؤتمر بانتخاب هيئات قيادية ومركزية جديدة حلت فيها عناصر محل العناصر المنشقة .

لقد كانت حصيلة المؤتمر الوطني الأول، الذي عقدته الجبهة الشعبية في آب 68، أنها قد أبرزت وكرست  داخل الجبهة جناحين متعاكسين تعبيراً عن وجود تيارين، تحول أحدهما لاحقاً نحو الانشقاق مكرساً مواقف غير انضباطية ومُصدِراً لبيانات خاصة، ونشره لمقالات ودراسات في مجلة "الحرية"، يصف فيها نفسه "بالأوساط التقدمية داخل الشعبية" مضمناً إياها اتهامات مختلفة للجبهة، مما أدى إلى تكريس وتعميق التناقضات ، وبالتالي استحالة التوصل إلى حل تنظيمي موضوعي بسبب طغيان النزعة الذاتية لدى "التيار اليساري" رغم حرص القائد الراحل جورج حبش ومعه العديد من الكوادر اليسارية في الجبهة على وقف وإنهاء الانشقاق.

رداً على هذه المواقف والممارسات ، قامت الجبهة الشعبية بإصدار بيان أكدت فيه تبنيها منذ مؤتمر آب الاشتراكية العلمية دليلاً نظرياً، شأنها شأن كل الثورات الناجحة في العالم: الصين وكوبا وفيتنام، كما أكدت في بيانها على  أن المؤتمر اتفق على "أنه في مرحلة التحرر الوطني لا بد من تحالف طبقي يشمل كافة الطبقات بقيادة الطبقة الكادحة وفي ظل أيدلوجيتها الاشتراكية، وانه لا بد من فتح النار على كافة القوى المعادية للجماهير في الوطن العربي"، واتهم البيان منتقدي الجبهة من الداخل بأنهم جيوب انتهازية تمثلت بمجموعة من المراهقين مثقفي المناصب الذين يتشدقون بالاشتراكية العلمية تشدقا لفظياً دون أن تكون لديهم القدرة على ممارستها:- "رفضوا النزول إلى القتال في الداخل ورفضوا الإقامة في المخيمات والريف بيئة اليسار الحقيقي واكتفوا بعملية كيل الاتهامات هنا وهناك دون تقدير لخطورة المرحلة ودون وعي لمصير الكفاح المسلح"، وقال البيان إن الانتهازية اليسارية أثبتت عبر التاريخ أنها لا تقل خطراً على الثورة من القوى اليمينية والرجعية العفنة، وقال إن هذه المجموعة رفضت عقد مؤتمر يضم المقاتلين والأعضاء من أبناء المخيمات لإجراء نقاش عقلاني طويل تقرر نتيجته الأغلبية الديمقراطية الثورية، وانشقت وانصرف أفرادها إلى مهاجمة الجبهة وقيادتها ووصف مقاتليها "بالمرتزقة والانكشارية" مما جعلهم يتلاقون مع كافة القوى المتآمرة على الجبهة منذ ولادتها خاصة بعد اتضاح هويتها اليسارية وهوية مقاتليها ومناضليها. وأضاف البيان أن القيادة طلبت منهم العمل تحت اسم آخر غير الجبهة، لكنهم رفضوا ولهذا أكدت الجبهة على انه إذا أصر المفصولون على العمل باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فسنعتبر صراعهم هذا انتهازاً رخيصاً وعملاً تخريبياً لا يجوز السكوت عنه".

وفي 21/2/1969 أذاع الفريق المنشق بياناً أعلن فيه عن تشكيل تنظيمه المستقل تحت اسم الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين متذرعاً بأن الجبهة الشعبية لا يمكنها التحول إلى تنظيم ماركسي لينيني وبالتالي كان يتوجب على اليسار الانسحاب من الجبهة وفق وجهة نظرهم، ولم ينتظروا عقد المؤتمر الثاني الاستثنائي الذي كان مقرراً آنذاك، والذي طرح تمسك الجبهة الشعبية بالماركسية – اللينينية وطرح موضوع التحول، وطرح إستراتيجية سياسية تنظيمية مستندة إلى مبادئ الماركسية – اللينينية.

وفي 22 شباط /فبراير 1969م تكرس الانشقاق الأخطر في حياة الجبهة بإعلان تأسيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، "وتشكيل لجنتها المركزية لم يمثل فيها من " الأكثرية اليسارية" التي انتخبها مؤتمر آب سوى نايف حواتمة" .

وفي هذا السياق التاريخي ، يمكن الاستدلال من جملة البيانات التي ادعاها المنشقون، وكذلك من كتيب أو كراس خاص نشرته الجبهة الشعبية في وقت لاحق حول الانشقاق، إن الخلاف بين الجانبين قام حول عدة نقاط، وهي كما سنرى ليست نقاطاً متعلقة بتبني النظرية الماركسية – اللينينية، فقد أوضح الكراس الخاص الذي صدر بعنوان " الجبهة وقضية الانشقاق" أهم الأسباب الحقيقية للانشقاق أو عناوين الخلاف  في تلك المرحلة كما يلي:

 أولاً: على صعيد القضايا الفكرية:-  وتناول في هذا الجانب مجموعة من القضايا ذات العلاقة ، وهي :

‌أ.     دور البرجوازية الصغيرة.

‌ب.    العلاقة بين الجبهة والمنظمات الفدائية الأخرى.

‌ج.    العلاقة بالأنظمة الوطنية.

‌د.     قضايا بناء الحزب والقضايا النظرية الأيديولوجية.

‌ه.    المركزية الديمقراطية.

‌و.     تقييم حركة المقاومة الفلسطينية عموماً.

‌ز.    تقييم الجبهة الشعبية على وجه الخصوص وممارستها السياسية والتنظيمية.

إن التقييم الموضوعي لذلك الانشقاق ، وفي ظروف تلك المرحلة من حياة الجبهة الشعبية بعد مرور أربعين عاماً على وقوعه يدفعنا إلى إعادة التأكيد – وباختصار شديد – على أن النزعة اليسارية الطفولية لدى الفريق الذي قرر الانشقاق في تلك المرحلة ، شكلت في تعاملها مع التناقضات الموضوعية التي ترافق عملية التحول من الفكر القومي المثالي إلى الفكر الماركسي -إلى جانب تدهور وتفاقم العلاقات الشخصية وبروز كل أشكال التكتل والشخصنة -  دافعاً صوب الفعل الانشقاقي رغم افتقاره للمبرر الموضوعي أو العقلاني سواء على الصعيد الفكري أو على الصعيد السياسي ودليلنا على ذلك ما نشهده اليوم من مواقف وتحولات فكرية وسياسية للرفاق في الجبهة الديمقراطية تتقاطع بمساحة كبيرة مع المواقف والسياسات التي كانت الفريق المنشق عن الجبهة ينادي بها ويتبناها ... وفي الواقع ، فقد اقدمت الجبهة الديمقراطية على نقد ما نادى به فريقها المؤسس منذ اليوم التالي لتأسيسها في العديد من عناوين الخلاف الذي أسس للإنشقاق.